في بيئتنا الصغيرة، ارتبطت باسمه بعض الأساطير والبطولات التي تناسب تلك الأيام. بطولات الفلسطينيّ الباقي في وجه الوافد من راء البحار الساعي إلى بسط هيبته بكل الوسائل ومنها، سحب سميح إلى تحقيق سمج، أو منعه من مهرجان خطابيّ أو فرض إقامة جبرية عليه. كانت هذه القصص تلهب حماسنا الثوريّ الطفوليّ. وصارت في وقت لاحق ترمّم الخلل في هويّتنا الدرزيّة بوصفها سرديّة بطل فلسطينيّ بأربعة وعشرين قيراط، يمثّلها في المنابر والإعلام والمنصّات المعمّرة من أخشاب وما تيسّر. أجل، كنت أنا وأترابي نعتبره رمزًا وطنيًّا نشدّ به ظهورنا المُتعبة من الإقصاء والشُبهات. كنّا نردّد تلك القصص بفخر واعتزاز أننا كباقي أهل فلسطين ولحم من لحمهم مهما استثمرت إسرائيل الرسمية في سلخنا أو تغريبنا عن بيئتنا المشرقية.
كان فرحنا عظيمًا كلّما أتى الدالية شاعرًا أو محاضرًا أو ضيفًا ممثلّا للحزب الشيوعيّ أو حركة المبادرة الدرزية. كنا نمتلئ بالعنفوان كلّما رأينا قبضته المرفوعة واستمعنا إلى كلماته الساخرة طورًا، المقاومة طورًا آخر. حفظنا ضحكته عن ظهر قلب وكذلك سحنته. ومن ثمّ انتبهنا إلى شاله الأحمر فوق ربطة العنق وإلى طيبة معشره وشعبيّته. كان سميح بطلنا نحن طلبة الثانويّة الذين هابهم المدير وأحبّهم بعض الأساتذة، ومنهم الشاعر المرحوم نزيه خير. وكان بطلنا نحن رافضي الخدمة الإجباريّة قبل السجون وفيها وبعدها. نردّد شعره أو ننسخه عن الذين قبلنا نزيّن بها لوحات هي لغة الرافضين نرسمها بالفحم ـ قيود مكسورة، ووجوه تغنّي وقبضات مرفوعة لا تلين.
كان سميح معلّما في مدرسة الدالية في الستينيات عندما استدعي إلى جلسة تأديبيّة تحذيريّة في الوزارة. وكان يومها طيّب الذكر، القائد قفطان عزام حلبي رئيس المجلس المحلّي، فانتصر لسميح وواجه الوزارة بفعلتها ضامًّا سميح إلى قلبه. ما من مرّة قابلت سميح فيها إلّا وذكر لي هذه الحادثة وتضامن الأهل في الدالية معه، وأنه يكنّ لهم ما يكن من احترام وحفظ الجميل.
ثم صار سميح كاتبنا والناطق بلساننا في "الاتحاد" وصُحف الحزب ومجلّاته. نتابع قصائده ومقالاته ونتاجه. نشعر أنه يُعبّر عما فينا من مشاعر انتماء وكبرياء أورثنا إيّاها جيل من الآباء شاركوا في ثورة 1936-1939 وانخرطوا في النشاط الوطنيّ قبل العام 1948. مثّل سميح ثوريّتنا وجيلًا يرفض الخدمة وينتمي إلى شعبه بالفطرة. كان سميح بالنسبة لنا زمنًا يتّسع عبر القمع، وخطابًا نتماثل معه، وبطلًا يؤنسنا في ليل غربتنا كدروز في الدولة اليهوديّة. كان سميح خيمتنا التي نستظلّ بها من تهميش وحصار ومن ظلم ذوي القُربى. وهو الذي يشدّنا من جديد بكلمته وشممه إلى شعبنا وثقافتنا. سنحسن صنعًا لو تذكّرنا له هذا الدور هو ورفاقه في لجنة المبادرة الدرزية والوطنيين من الدروز.
واكتشفنا أنه لم يكن بطلنا وحدنا بل بطل شعب ينهض من نكبته وبطل الإقليم. شاعر مقاومة يطاول الغيم ويمسك النجوم. فاتسع فرحنا به كأبناء الجيل الذي تلاه. كبرنا كما كبر أبناء جيلنا في فلسطين والإقليم على شعره ومعانيه وعنفوانه. قرأنا كلّ ما كتب وحفظناه. فقد كان من بُناة الهويّة بعد النكبة وأحد وكلائها يصنع دبقها ومضامين بنيانها ويشدّ كتلة على كتلة. هويّة تقوم على وعي عروبي فلسطيني شبّ على طوق النكبة وندوبها ذاهبة إلى غد أفضل، مسلّحة بثوريّة في محورها الإنسان وكرامته وحقوقه.
يحدث أن نحاصر الرمز الوطني والثقافي في خانة. فنراه شاعر مقاومة ونتوقّف هناك. أو نراه شاعرًا كبيرًا أو كاتبًا. وهذا فعل اختزال لهذه الرموز لا تتماشى مع الحقائق في مسيرة هذا وذاك ممّن عمّروا الوقت لنا ووسّعوا المكان. وهو ما ينسحب على سميح الذي لعب أدوارًا خطيرة ودقيقة ومثّل وظائف عديدة في بناء الهويّة ولملمة شظاياها وإعادة لحمتها وشدّ أزرها وصياغة معانيها وإنتاج خطابها. كان حاضرًا في الربط بين المحليّ وبين الإقليمي والكونيّ، بين العروبيّ وبين الأمميّ، بين فلسطينيّته وإنسانيّته. بيد أنه كشاعر يُعنى بالجوهر البشريّ فقد اتصل بذواتنا المكلومة وبروح الجماعة مغنّيًا لها في ليلها الطويل كي تبصر النور في نهاية الرحلة الصعبة. لقد مثّل سميح بطبعه وصفاته ومسيرته ووجهه حيويّة الفلسطينيّ واتساع مداه، الفلسطينيّ المحتفظ بابتسامته وأمله المنتصب في وجه انكسار التاريخ فوق حياته.
نذكره بكلّ هذا الإرث.
لروحه السلام