فيما يستعر العدوان الإسرائيليّ على القرى الجنوبية، آخذاً منحى تصاعدياً بفعل الوحشية التي تعوّد على ممارستها العدو الغاشم، عادَ الحديث في الغرف المغلقة حول ضرورة تسليح المواطنين في هذه المناطق، دفاعاً عن أنفسهم ومساندةً للمقاومة، تحت مظلة الدولة، إذ إنهم بذلك لما كانوا هُجروا من أرضهم ومنازلهم وحرموا من أرزاقهم.
موضوع تسليح الجنوبيين ليسَ بأمر جديد، بحيث كان المعلم الشهيد كمال جنبلاط أوّل من دعا إليه، مُدوّناً إياه ببيان أصدره قبيل عدوان الخامس من حزيران 1967 بأربعة أيام، يُفنّد ضمنه أبرز الأسباب الداعمة لرأيه، بالقول: "كنا ولا نزال نطالب بتسليح سكان قرى الحدود وتدريبهم الكامل على جميع أساليب المقاومة وحرب العصابات، فإنه لو حصل ذلك في منطقة مرجعيون وحاصبيا والعرقوب الجنوبي وراشيا والبقاع الغربي مثلاً، لاستطاع سكان هذه المناطق المتاخمة والجبلية أن يتصدوا لبضع ألوية من جنود العدو وتقطيع أوصالهم من الوراء وتخريب وسائل تموينهم ومنعهم من التقدم.."
هذا الموقف التاريخي لم يأتِ من العدم، بل إنّه نتيجة أحداثٍ مأساوية عايشها أهل الجنوب على وجه الخصوص، في كلّ مرّة صوّب بها العدو مسيّراته وصواريخه وإجرامه على لبنان. وما أشبه الأمس باليوم، حيث يعيش الجنوبيون أوضاعاً صعبة تحت نيران العدو الذي لا يُفرّق بين شخص وآخر، حتّى وصل به جنونه إلى قتل الحيوانات، إشباعاً لوحشيته، فضلاً عن المئات ممن تهجروا من منازلهم وانتقلوا إلى مناطق أكثر أماناً، ومَن ترك أرضه الخصبة التي كانت مورد رزق له، فهجرَ الأرض والذكريات والرزق.
لم يُبدّل المعلم الشهيد كمال جنبلاط نظرته للقضية الفلسطينية يوماً، بل حملها قضيته الوطنية والإنسانية إلى ساعةٍ صمت فيه صوت الحقّ، وامتدت يد الإجرام، فكان اغتيال المعلم وراء ثورة جديدة للفكر الإشتراكي والشبابي والخط السياسي الذي لطالما دعا إليه كمال جنبلاط من خلال كتاباته، مشدداً على ضرورة "أن ينهي لبنان الرسمي التزامه المبطن بالولايات المتحدة وبريطانيا سياسياً على حساب علاقاته بالعالم الثالث وبالعالم السوفياتي والاشتراكي الماركسي، وأن يسافر وفد حكومي لبناني إلى الاتحاد السوفياتي على غرار ما فعلت الجمهورية العربية المتحدة وسوريا، وتدليلاً لشكرنا وتقديرنا للموقف السوفياتي المساند بجميع إمكانياته للعرب في مجابهتهم لتحدي إسرائيل والاستعمار".
اليوم لا يختلف عن الأمس، فالتهديد قائم ومستمر، لا بل يد الإجرام طالت هذه المرّة أيضاً البشر والحجر، فحبذا لو يعود البعض إلى فكر كمال جنبلاط، الفكر الذي لا يموت، بل يترسّخ مع مرور الوقت، ويعيش في أيّ مكان وزمان، فلا للبلد القدرة على الصمود أكثر ولا للمواطنين القدرة على تحمّل أعباء إضافية.