يقف الشعب اللبناني كعادته على مفترق الازدواجية في المعطيات، ولكنه يقف هذه المرة في حيرة بين ما تتناقله وسائل الإعلام عن ضغوط تجريها دول القرار والايحاء على مدار الوقت من اقتراب الاتفاق على تسوية تنهي الصراع القائم على امتداد الأشهر العشرة المنصرمة (منذ 7 تشرين الأول 2023) وتوقف المجازر التي تحصل في غزّة وباقي الأراض المحتلة أم في جنوب لبنان هذا من جهة، ومن جهة ثانية، بين ما يتكشّف عن سخونة يفرضها الميدان، خاصةً مع ما يشهده الشرق الأوسط من توسيع دائرة اعتداءات جيش الاحتلال في سوريا والعراق واليمن، والاغتيالات التي طالت القيادي في حزب الله "فؤاد شكر"ومدنيينفي الضاحية الجنوبية، واستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" في طهران مسقطةً الخطوط الحمراء ومتجاوزة كل قواعد الاشتباك، التي استمرّت منضبطة للأمس القريب.
وأمام خطورة الوضع التي آلت إليه البلاد، تبقى العين على حجم الرد المتوقع الذي قد يقدم عليه حزب الله ومدى ارتداداته على الساحة اللبنانية، لجهة الرد الإسرائيلي المباشر وما إذا كان سيأتي متناسبا أم يتجاوز ضربات حزب الله،ويخرج البلاد شيئاً فشيئاً من الاستقرار الموهوم الذي كان مستغرباً الى حد كبير، خاصةً بالنسبة لمن يعي حجم المعركة في الجنوب اللبناني، وحجم الدمار الذي لحق بالقرى الحدودية وأعداد الشهداء المدنيين والمقاومين وغالبيتهم من الكوادر والقيادات، سيما وأنحجم الخسائر من هاتين الناحيتين قد يكون تجاوز خسائر حرب الـ 2006، في حين استمر المغتربون بالتدفق الى أرض الوطن حتى وإن ذهبت الأكثرية منهم لاستكمال إجازاتها في دول مجاورة والحصة الأكبر لعلها إلى تركيا وقبرص.
هذه التطورات جعلت الدولة اللبنانية تقف على أجر ونصف، وتباشر ترقيع الوضع الاقتصادي بإمكاناتها المحدودة، من خلال متابعة وتسريع عملية توزيع المواد الغذائية والمحروقات المهدّدة بالشح على المناطق كافة، آخذةً بعين الاعتبار تلك التي قد تستقطب النازحين أكثر من غيرها، كما تسلّمت وزارة الصحة مساعدات طبية ملفة للنظر بكونها هذه المرّة تتضمّن علاجات خاصةبجرحى الحرب، وها هم اللبنانيون في المناطق الساخنة يأخذون المخاطر على محمل الجد، وينخرطون بالتحضيرات والتحصينات، فتكثر حركة الانتقال بين المناطق، ويزداد الطلب على الإيجارات لاسيما في المناطق التي تعتبر أكثر أمانا الممتدة بين عاليه والمتن وكسروان والشوف، والشكوى من ارتفاع أسعار الإيجارات مرةً بحجة تزايد الطلب ومرةً بلا حجة أو الأصح بحجة الجشع والرغبة الجامحة بمضاعفة الاستفادة واستغلال الآخرين في شتى الأوقات والمناسبات، هذا بالإضافة لغلاء أسعار السلع والخدمات وانكباب اللبنانيين على مضاعفة التموين.
ويبقى الأهم، دعوات القيادات الحكيمة التي عملت وتعمل دائماً على تحصين لبنان وتقوية مناعته بلا كللٍ ولا مللٍ ودون أدنى منة لأحد، وفي طليعتهم الزعيم وليد جنبلاط وقيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، ونواب اللقاء الديمقراطي، الذين يشددون على وحدة الصف في مواجهة أي عدوان متوقّع يؤدي لاتساع دائرة رقعة الحرب، والعمل المباشر لتهيئة الأرض وتحصين البيئة الحاضنة والتنسيق استعدادا لاستيعاب المسائل الشائكة والأوضاع الطارئة، والعمل على تعطيل مفاعيل الاختلافات حول الملفات الداخلية، بالإضافة إلى استعادةنشاط خلايا الأزمة مركزيا، والدعوة لتفعيلها داخل البلدات والقرى، واستنهاض هِمم الموارد البشرية من خيرة مؤسسات وشبيبة المناطق، والتحقق من مدى جهوزية المدارس والأبنية باعتبارها مراكز إيواء لنازحين محتملين، وتأمين مستلزمات المستشفيات والوقود والمياه، والتنسيق مع المؤسسات الرسمية والأمنية والمحلية ولا سيما الصليب الأحمر والمؤسسات الرافدة في التقدمي، التي تعبّأ لمرحلة جديدة من الانفتاح والتعامل مع مختلف الأحزاب والجمعيات التي تفرض الظروف التعاون والتنسيق معهم.
ولكن، أمام الاسترسال في قرع طبول الحرب يبقى الترقّب وحبس الأنفاس سيّد الموقف، ويبقى السؤال مشروعاً، هل كل الذي يحصل رغم أهميته يحل المشكلة؟ وهل يكفي اقتصاد السلم لأيام الحرب؟ فيما لو "وقعت الواقعة" واشتعلت الحرب الشاملة؟! وتبلغ حينذاك التمنيات أشدّها في أن تمرّ هذه المرحلة على خير ما يرام، وأن تجد التسويات المرتجى من الإنصاف وتقدّمه للشعب الفلسطيني المغدور ولأهلنا من أبناء الجنوب اللبناني لعلّ وعسى يعيشون بطمأنينة وأمان، وأن يوفّق المقاومون بالثأر لقياداتهم تحت سقف قواعد الاشتباك بعيدا عن الدخول في أتون الحرب التدميرية الشاملة؛ علنا نتجاوز مرحلة الخطر الداهم ونحمي ما بقي من هذا اللبنان الحبيب حمى الله اللبنانيين جميعاً، وأنزل الوحي على مسؤوليه لإعادة لبنان ومؤسساته في القريب العاجل إلى سابق هيبتها، لنكون في المستقبل أكثر انسجاماًوتحصّناً ومناعةً والسلام.