Advertise here

مرض عُضال يصيب غالبية اللبنانيين!

31 تموز 2019 20:08:03

 من عاداتي الحلوة والسيئة في آن، أنني حين أستقلّ السيّارة، أو أتمشّى في الشارع، أو أتواجد بين مجموعة مكتظّة من الناس، أحبّ التحديق في وجوه المارّة والموجودين دون أن ألفت انتباههم. وبهذه العادة أستمع إلى الصامتين منهم قبل أؤلئك الذين يثرثرون دون انقطاع. أتنصّت بعينيَّ مستمتعةً بما يتراءى لي خلف قناع صمتهم من دروس وعبر حياتية يجهدون لإخفائها عن العالم.

وغالباً ما أجد لذّة في ذاك التسلّل إلى الوجوه والحدقات. ففيه يمكن أن أرى انسجام زوجيْن بعد أعوام زواج طويلة، أو انفصالٍ روحياً بين زوجيْن مرتبطيْن للتو! 

فيه يمكن أن ألتقط إشارات النجاح في مَن تشخص عيونهم نحو المستقبل بعزم وثقة، أو هشاشة من يجمّلون ضعف نفوسهم بألق العبارات وزيف الإبتسامات.

لكنّ عادتي هذه ما عادت ممتعةً في السنوات الأخيرة. ما زالت واحدة من هواياتي الخاصة، لكن ضحكات المارة التبست عليّ، فما عدت أميّز حلوها من مرّها، ولا عدت قادرة على تصديق أبسطها.

ترى ما الذي حلّ بالناس في بلدي وكأن مرضاً عُضالاً أصاب معظمهم، كي لا نقول كلّهم فنقع في شرك التعميم وخطأه؟!

بحثت مطوّلاً عن صفة أو عنوان واحد، جامع، يتوحّد حوله كل اللبنانيات واللبنانيون ويجدون فيه لسان حالهم .. 

فكّرت وراقبت وتعمّقت، لكنّني رغم ذلك عجزت.

في الشوارع "تمشّيت"، وبالواقع "انغشّيت". تمعّنت بوجوه المارّة ، وهذه المرّة دردشت مع بعضهم، نساءً ورجالا، شابات وشبابا، كباراً وصغار ..

ولم أكتفِ بالواقع، إذ ثمّة واقع افتراضي مرادف لعلّه الأصدق بالنسبة للبعض. فعلى جدران التواصل الإفتراضي تفرّجت ، تنصّتت بعينيَّ وأذني. قرأت وسمعت ، وفوجئت بأن مرضاً عُضالاً أصاب غالبية اللبنانيين بالفعل!

وصحيح أنه عُضال، ما يعني لغوياً "الشديدُ المُعْجِزُ ، المُستَعْصي، المُتْعِب ، والـ لا طِبّ له"، لكن ببحث بسيط عن معانيه في اللغة اكتشفت أنه ليس من العبث قيل "داوني باللتي كانت هي الداء" فبهذا المرض نفسه يمكن مداواة المريض.

هو الزّهق.. نعم الزهق مرض يضربنا. ومن :زَهَقَ من الشّيء سَئِم منه ومَلّ". 

هكذا نحن كلبنانيين، فقد صار الزهق عنوان كل تفصيل في حياتنا. 

في السياسة ، زهقنا من الكذب والنفاق ، والتهديد والوعيد ، من الصفقات والسمسرات، والفتَن المدفوعة سلفاً.. والمؤامرات!

في الإدارات الرسمية، زهقنا من الرشاوى والروتين والإذلال على أبواب ونوافذ بعض الموظفين الفاشلين .. أو الفاسدين!

في الإعلام ، زهقنا من التحريف والتحريض وبيع الكلام ... والأقلام!

في الفن، زهقنا من الأغاني الهابطة والنجومية الفارغة، ومشاهير الورق والبوتوكس! 

في المجتمع، زهقنا من الوجاهة والرجعيّة، من التكاذب والتخلّف والتبعيّة!

في الدين، زهقنا من الشعائر المصطنعة والمعتقدات المتطرّفة، والألوهية الوهمية الخالية من الإنسانية!

في القانون، زهقنا من التنظير والإستنسابية، التمييز والظلم والتطبيق بعبثية.

في الشوارع زهقنا من الزحمة وروائح النفايات والطرقات "المهترية".

حتّى في بيوتنا زهقنا. زهقنا من الجيوب الفارغة والعتمة والخدمات المنسيّة.

زهقنا من علاقات المصلحة وقطع الأرحام، والتكاذب فوق سطوح التواصل الإفتراضية.

مهلاً. مهلاً. حتّى من الزهق زهقنا!

زهقنا وبتنا بحاجة لثورة حقيقية ، على الذات والعادات ويومياتنا التقليدية.

زهقنا من اللهاث خلف لقمة العيش ، وبحثاً عن الكرامة والسيادة والحرية.

زهقنا من اصطناع الفرح والقبول بواقع مأساوي وطبقة حاكمة فاقدة للأهلية.

حتّى أننا زهقنا من الزهق نفسه.

مهلاً، فهنا بيت القصيد، وهنا ينقلب الداء دواءً. 

ففعل زَهَقَ في اللغة العربية يعني أيضاً "تلاشى وذهب واضمحلّ"، فليت الباطل يزهق عنّا ليسطع نجم الحق. 

وفعل زهق نفسه يعني "زهقَتِ الفرسُ: أي سبقتْ وتقدمتْ أَمام الخيل"، فليتنا نزهَق كما زهق أجدادنا في "الأساطير" التاريخية، فنستعيد كرامتنا و مجد الهويّة اللبنانية.

وفعل "زَهَقَ السهمُ" يعني جاوزَ الهدفَ، فليتنا نحدّد الهدف أولاً ونتوحّد لبلوغه، فنحوّل داء الزهق دواءً وسبيلاً للخلاص.. 

فيا أيّها اللبنانيون.. أما زهقتُم بعد؟!