ماذا عن اليوم التالي للحرب في لبنان؟ هل يحق لنا كلبنانيين أحرار متنورين أن نسأل؟
بل أكثر، هل يجوز أن يُغيّب هذا الأمر عن التداول؟ والجميع في لبنان يسأل عن اليوم التالي في بلاد الآخرين؟
فالمعركة على الحدود الجنوبية مع العدو الإسرائيلي لم تنته فصولها بعد، وخطر الانزلاق الى الحرب الشاملة لا يزال داهماً، مع استمرار سيناريو الاغتيالات مشرعاً على مصراعيه إن من خلال اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر داخل الضاحية الجنوبية، أم من خلال استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بعد ساعات في شمال إيران، وبانتظار الرد المناسب والمتوازن حجماً ومكاناً كما تعد المقاومة. وذلك بعد قطع دابر الفتنة وتجاوز خطر حادثة مجدل شمس المؤسفة والمستنكرة التي أودت بأطفالها من "ملائكة كرة القدم"، التي تلتها محاولات العدو الصهيوني الاصطياد في المياه العكرة أملاً بإعادة خلط أوراق الجبهات من خلال اللعب على وتر الدولة الدرزية.
وفي ظل انقسام الرأي حول حرب الجنوب، لا بد من مواجهة الحقيقة وإيجاد وسيلة ما لرأب الصدع، تكون أكثر مساواة وإنصافاً للجميع وفق مقاييس الوسطية التي لا تجافي الاعتدال والشراكة العادلة المستدامة تحت سقف الدستور، مبنيّة على مبدأ الأخوّة وقبول الآخر، تستعيد للبنانيين حقوقهم كاملة دون أي التباس، وتعطي المقاومين حقهم في الدور الكبير الذي يقومون به، اذ من غير الجائز وليس منصفاً أن ننطلق في لحظة ما، من مكان ما، وكأنّ شيئاً لم يكن رغم الحروب المكلفة، والتضحيات الجسام في الأرواح والدماء التي يقدّمها مختلف اللبنانيين على مذبح الوطن، وإن بنسب متفاوتة، ومن بينهم ما تقدمه المقاومة الاسلامية، على أن يحصل ذلك من خلال تطوير النظام وفق مبدأ "الحدّ الأدنى المقبول الذي لا يتجاوز الحد الأقصى المعقول".
ويبقى الرهان على العقل، وعلى حسن قراءة المعطيات الجديدة، والاستفادة من العلاقات التي ظهرت تجلياتها فيما بين قيادات المقاومة والدولة اللبنانية، خاصةً مع نفي أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله لوجود أي تسوية في غفلة عن الدولة اللبنانية، والتأكيد بأن لا اتفاقات تمت ولا عمل على صياغات لتسوية، وبأن الحكومة هي الجهة الوحيدة المخولة لعقد مثل هذا الاتفاق، وهذا ليس بالأمر البسيط، وضروري أن يدوّن في "السجل الذهبي"، وأن يكون خيارا ثابتاً لا عودة عنه، والأهم، أن يُبنى عليه في المستقبل القريب.
ولا أعتقد أن العقول قاصرة عن ابتداع حلّ يجب ان يكون مرضياً لجميع الأطراف، ولا أظن أنه يجب أن يكون هناك نقص في الهمّة والاندفاع، في ظل الوضع الاقتصادي المتردّي والوضع السياسي والأمني الذي أرهق اللبنانيين. اللبنانيون المحبون على تنوعهم للحياة، بل أكثر، الطامحون لأفضل ما يتاح لهم من حياة، ولقد استنفِدَ كل الوقت، ولم يبقى حتى القليل منه للتحايل على معاني الكلمات، ولا للتلهّي بتبديل المفردات، ولا لمحافل المزايدات، ولم يعد جائز قطعا مراوحة البلاد في مكانها، "الوقت الآن للعمل الجدّي والايجابي"، وليس للمزيد من الانشقاق والتصدع، فمن لديه كلمة حقٍّ تصبّ في الاتجاه المحمود فليقولها بالفم الملآن، أو فليصمت الجميع ويستمعوا الى صوت العقل.
آن الأوان لأن نطلق يد القيادات الوطنية، لاسيما من استمرّ منهم متهيّبا في مواقفه المعتدلة، المشهود لحكمته ولرأيه السديد في مختلف الأوقات والمراحل، فلا يجوز أن نمتدحهم تارةً، ونراسلهم ونقف عند خاطرهم في كل مرّة تتقاطع مواقفهم النبيلة والرصينة والشجاعة مع مصالحنا، وننقضّ على اعتدالهم ونشيح وجهنا عنهم ولا نصغي لمناشداتهم عندما يكون الحق علينا، في حين بات قولهم أشبه بصلاة. سيما وأنّ لبنان لم يبق بلداً كامل الاوصاف، وشعبه منهكٌ حتى الثمالة، ويحتاج الى الراحة، يحتاج الى البحبوحة، يحتاج الى الحرية، يحتاج الى الفرح، يحتاج الى مواجهة صريحة يقودها العقلاء، يلتقطها النبهاء، يمضي بها الجميع كي يذكر التاريخ زماننا بالخير ولو بسطرٍ واحدٍ، ولكي يعود لبنان الى سابق عهده ويبقى لنا موطناً فيه سيادة وأسياد.