إنّ أزمة المواطنة في لبنان تستوفي عناصرها الغالبة على أحوال اللبنانيين من فرط محنة الانتماء القلق عند هؤلاء الذين يتبادلون مآثر العصبيات الطائفية والمذهبية بشكل تستباح فيه حدود الوقوف على المحرمات كلها، ويؤثرون التلطي بأركان الدين على الدين ذاته، وينزعون صوب المذهب من الاستجارة بالمذهب عينه. ويبالغون في استحداث إشكاليات الغلبة والنزعة داخل التضخم في الانتماء العصبي على مدارك الولاء الوطني، وإلاّ لماذا يعيدون دائماً ترتيب أولياتهم من الطوائف نحو الطوائف، قد يركن البعض منهم الى أسباب معللة في تبرير الزعم الظاهري لما يدعي لا لما يضمر .
فالباطنية والتقية والتأويل واعتماد بواطن الأمور من دون تسطيح الهوة بين اعتقادهم وأفعالهم واللوذ عن الأنظار، هي سمات عريقة في الاحاطة بعروة مللهم ونحَلِهم ويسابقون في خطاباتهم السرديات الواشحة عمّا يضمرون. الخطب عند هؤلاء ترفع الدين جانباً، والعظات لديهم تواري مكامن القصد بمقاصد لا تشبهها الا من حيث القائلون بها، "وجعلوا ارزاقهم في رماحهم"، كما تنبأ ابن خلدون .
لماذا يمعن اللبنانيون في استنباط الإشكاليات الفرعية على أنها أزمات وجودية يترنحون تحت كاهل حملها، وينقبون عن حلول خارجية لداخلهم العاري من كل سر، في استقواء خارجي مريب على ذواتهم المتشابهة في حدة الاختلاف. إن الأمة العريقة اذا اتصفت بذلك تراود عن حالها بعدم بلوغ سن الرشد، وهي تعيش سن اليأس، لخلافهم الطويل والعميق على ادنى التفاصيل، وكأنه عناهم فولتير Voltaire في قوله كل الاطراف "على خطأ".
إنّ "الحرية" عند اللبنانيين هي غيرها في المعهود، كما "ديموقراطيتهم"، التى يرونها ذات امتيازات تكوينية مذهبية وطائفية ومناطقية خاصة بهم، متشحة بداء الخوف من الآخر الشريك، يغلبون التربص والريبة وزرع تربية النميمة في سلم العلاقة والروابط بين أركان مكوناتهم. لا ضير أنّ اختلافاتهم شمولية وعامة من المفهوم الملتبس للادارة والسياسة ومقاربة الرياسة ومن توطئة تعريف الذات، وصولاً إلى تعريف الآخر .
إنّ معظم اللبنانيين يسكتون لمزا وغمزاً عن دوائر المراتب الطبقية للمجتمعات وتفاوتها لصالح هواجسهم الغائرة في المكامن العصبية المدفوعة عند البعض من القلق المزمن الناتج من سطوة التأثير الخارجي والمتزامن مع الريبة المستقيمة على الشك والحذر في تركيبة الداخل .
إنّ الجيوالمذهبية الداخلية متحرّكة، وفق الحوادث المفصلية التى حدثت بين اللبنانيين أنفسهم، وبين الآخرين على أرضهم، ما أنتج قلقاً عميقاً مزمناً في استقرار أحوالهم، وأوجد تمرّداً مستديماً في وجه كلّ شيء، حتى اذا خلا الواحد منهم مع نفسه، ما ترك عذرًا لعتاب الذات، الحروب أوهنت الضوابط الناظمة لتعاقب الاشياء وتنظيمها وترتيبها، وحال الفرد فيهم ليست بعيدة عن حال الجماعة. فاللبناني ،المتصف بنجاحه الفردي وفشله الجماعي ، استباح القيم والأخلاقيات ولجأ الى جلد الذات والاخر و توسل الانتقام حتى من بديهيات "نظام سيره" في شوارعه المكتظة بكل موبقات الانتقام والتمرّد والغليان، عجيب أمر هذا الأنيق الفاتن في ملبسه، الرديء في سيرورة حياته، رائعة تلك العابرة فوق حقوق العابرين تتزيّن بمظهرها وتدلق زينتها من مزامير عبورها وتردي تلك اللواتي تصادفهن على طرقات الخروج والدخول من بيت بين منازل كثيرة في وطن يعجز بنوه عن احترام أنظمة المرور، وهم يبتسمون أو يقرون بفضيلة تشاطرهم على مبدأ اللاتعاون في الاقسام المشتركة لاحيائهم المصابة معظمها بالتوحد البيئيّ في الدين والمذهب، وأحياناً بكثرة العدد بالمنشأ المكاني. و ما اوجد هذان العاملان، سكينة البتة، ولا انتظاما في سلوكيات اللبنانيين من سدنة بيوت الطوائف المسكونين بهوس الهجرة من وطن الى وطن... .
*مدير العام لوزارة الاعلام