يشاء القدر أن يضع بلدة مجدل شمس، الواقعة في الجولان السوري المحتلّ، في واجهة الأحداث والتطورات مجدداً، على وقع الحرب الإسرائيلية على غزة، والمواجهات بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، والتي امتدت من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا.
ثمن جديد تدفعه تلك البلدة، التي يصرّ معظم أبنائها على الاحتفاظ بالهوية العربية والسورية تحديداً ورفض الهوية الإسرائيلية. من بلدة مجدل شمس برزت أوائل ملامح الطموح الإسرائيلي التاريخي في خلق كيانات طائفية. وبمعزل عن كل الضخ الإسرائيلي حول استهداف البلدة وكيف حصل ذلك، والإصرار على اتهام حزب الله بالمجزرة، فالغاية واضحة، وهي تعزيز الشرخ بين الدروز والشيعة، كما كانت هناك محاولات لزرع شرخ كبير بين الدروز والسنّة في سوريا، بالإضافة إلى استقطاب الدروز في إسرائيل بمواجهة العرب.
التغيير الديموغرافي
استشعر وليد جنبلاط باكراً وسريعاً خطورة المشروع الإسرائيلي. فأصدر بياناً واضحاً قال فيه إنه مع المقاومة في مواجهة كل محاولات زرع الشقاق الإسرائيلي، وحذّر جنبلاط "ممّا يعمل عليه العدو الإسرائيلي منذ زمنٍ بعيد لإشعال الفتن وتفتيت المنطقة واستهداف مكوّناتها. وقد أسقطنا هذا المشروع في السابق، وإذ يطل برأسه من جديد، فنحن له بالمرصاد".
فما هو هذا المشروع القديم والذي يطلّ برأسه من جديد؟ للإجابة على السؤال، لا بد من التركيز على مجموعة نقاط بعد الحرب على غزة وقبلها. فبعيد عملية طوفان الأقصى تجلى المشروع الإسرائيلي بشكل واضح على ألسنة مسؤولين إسرائيليين، هدفهم تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء أو إلى دول أخرى. وبالتالي، الإعلان صراحة عن مشروع الترانسفير والتغيير الديمغرافي. وهذا مشروع لا يقتصر على غزة، بل سيطال الضفة الغربية لاحقاً، وسيكون هناك تهديد جدّي للأردن، مع الإشارة إلى الرهان الإسرائيلي على ضمّ الضفة لاحقاً بعد افتعال أحداث أمنية وعسكرية، يتخذها ذريعة للاستمرار في سياسة الاستيطان وتهجير الفلسطينيين.
المعيار السوري
قبل عملية طوفان الأقصى وبعد الحرب السورية التي أدت إلى أكبر عملية تهجير وتغيير ديمغرافي شهدتها المنطقة العربية، خرج الإسرائيليون لإعلان "يهودية وقومية الدولة". وكأنهم اتخذوا من معيار التهجير السوري ذريعة لذلك. لا سيما أن سوريا تجزأت وتركزت مركزية النظام في سيطرته على ما أسمي بـ"سوريا المفيدة".
لبنان ليس بعيداً عن كل هذه المحاولات من خلال تغذية النزعات الطائفية والمذهبية، أو من خلال تسجيل اختراقات في صفوف البيئات المختلفة، ولا سيما البيئة الدرزية، التي شهدت في الفترة الماضية سجالاً مباشراً بين وليد جنبلاط وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة موفق طريف، الذي استقبل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وأعلن سابقاً عن التزام الدروز المنضوين في جيش الاحتلال بالدفاع عن إسرائيل. يعيد هذا السجال بالذاكرة ما حدث سابقاً في لبنان مع مطران الأراضي المقدسة موسى الحاج، والذي صودرت منه مبالغ مالية مرسلة من دروز في فلسطين المحتلة إلى الدروز في لبنان. وقد تزايدت هذه المحاولات بعد الحرب على غزة.
دويلات طائفية
بالعودة إلى المشروع القديم فلا بد من العودة إلى مجدل شمس. في السبعينيات والثمانينات، كان هناك محاولة إسرائيلية لخلق ما يسمّى بالدولة الدرزية، والتي تقوم على أراضي الجولان، السويداء مع جبل لبنان. وبغض النظر عن الثغرات الكبيرة جغرافياً واجتماعياً وسياسياً في هذا المشروع، إلا أن الإسرائيليين اختاروا يومها شخصية من بلدة مجدل شمس وهو كمال كنج، بالإضافة إلى أحد أقربائه ويدعى كمال أبو لطيف من قضاء راشيا، للعمل معاً على إنشاء الدولة الدرزية. ويروي كتاب عنوانه "قصة الدولتين المارونية والدرزية" تفاصيل الاجتماعات التي عقدت بين الإسرائيليين وهاتين الشخصيتين للعمل على إقامة تلك الدولة. ويروي الكتاب أن كنج وأبو لطيف واصلا الاجتماعات في سبيل فضح المشروع الإسرائيلي ونشره. وهو ما حصل لاحقاً.
انقسمت المفاوضات إلى قسمين. قسم سياسي، يتعلق بإقناع الدروز والموارنة في إقامة دولتين. والقسم الآخر عسكري، كان يرتبط بالتحضير الإسرائيلي لاجتياح لبنان في العام 1982. وكان العمل متسقاً ما بين خلق كيانات طائفية مؤيدة لإسرائيل، تكون حاضرة لمواكبة الاجتياح وما سيليه. وحسب ما يكشف الكتاب، فإن الخريطة الإسرائيلية كانت تشير إلى إقامة خمس دويلات طائفية في لبنان.
الاستغلال الإسرائيلي
تعود مجدل شمس إلى واجهة الأحداث. وما بعد التطور العسكري الذي شهدته سيشتد التجاذب، خصوصاً في ظل المحاولات الإسرائيلية المستمرة لتعزيز الشرخ بين الدروز والمكونات الأخرى. وهو ما يراد أن يكون له انعكاس في لبنان بين الدروز والشيعة، وسط محاولات جنبلاط التصدي لمثل هذه المشاريع، والتي كانت قد تجلّت مؤشراتها في حادثة شويا، حين اعترض بعض الدروز شاحنة صواريخ لحزب الله وصادروها.
تفتح هذه التطورات السجال على جوانب سياسية مختلفة، ولا تقتصر فقط على التطورات العسكرية، خصوصاً أن الدروز لا يجدون أي دولة عربية حاضنة لهم بالمعنى الفعلي، فيما تواصل اسرائيل تقديماتها لهم في محاولة لاستقطابهم في الجيش والمؤسسات الأخرى، وتوفير الخدمات. وللإسرائيليين باع طويل في هذا المجال يرويها كتاب عنوانه: "دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية".
إلى جانب كل هذه التفاصيل، لا شك أن إسرائيل ستستغل ما جرى على أكثر من خطّ. أولاً على خط زيادة منسوب الشرخ بين الدروز والشيعة في سياق لعبة الأقليات التي تلعبها دائماً. ثانياً، القيام بعملية تحشيد كبيرة في الغرب وفي أميركا للحصول على الدعم العسكري ومواصلة الحرب على غزة، وتصعيد المواجهة مع حزب الله، ولكن من دون الانتقال إلى حرب واسعة. ثالثاً، استغلال الضغط العسكري والدعم الغربي تحت ذريعة أن إسرائيل تتعرض لتهديدات من قبل حزب الله وإيران، في سبيل تحقيق ضغط أكبر يدفع الحزب إلى القبول باتفاق ديبلوماسي لتطبيق القرار 1701، مع ضمانات مقدمة لإسرائيل لتثبيت الاستقرار لفترة طويلة. وهذا ما أوحت به الخارجية الإسرائيلية عندما أشارت إلى أنه لدى الحزب فرصة للذهاب لاتفاق ديبلوماسي لتجنّب الحرب.