جنبلاط المُستشرف الحرب... والتسوية

02 تموز 2024 16:50:00 - آخر تحديث: 04 تموز 2024 18:57:00

"رادارات وليد جنبلاط لا تُخطئ"، هذا ما يُجمع عليه متابعو السياسة في لبنان والخارج، وهذا ما يدفع بقيادات دول كروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وقطر والأردن وغيرها إلى استطلاع مواقف جنبلاط في كلّ ما يتعلّق بلبنان والمنطقة، انطلاقاً من باعه الطويل في السياسة والعسكر، وقراءته الدقيقة للمستجدّات واستشرافه معالم المراحل المقبلة، إلى جانب كونه قارئ كتاب قديم.

في الأشهر الأخيرة، زار جنبلاط روسيا حيث التقى وزير الخارجية سيرغي لافروف والمبعوث الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، وفرنسا والتقى رئيسها إيمانويل ماكرون، وقطر اجتمع مع أميرها تميم بن حمد آل ثاني، والأردن حيث بحث مع الملك عبدالله الثاني الأوضاع، كما استقبل المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين في كليمنصو.

لا يخصّص قادة هذه الدول، الذين لديهم ما يكفي من انشغالات، الوقت لإبلاغ جنبلاط بالمستجدات فحسب، وهذه مهمّة السفراء عادة، بل إنّ اللقاءات جزء من فهم "اليوم الحالي" وتخطيط "اليوم التالي" لحربَي غزّة وجنوب لبنان، خصوصاً وأنّ جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه برّي هما الوحيدان اللذان يتواصلان مع "حزب الله" والخارج دفعاً للتسوية والتهدئة.

استشرف جنبلاط توسيع الحرب من الأردن، وقد يكون موقفه حصيلة لقاءاته المذكورة سلفاً، وحصيلة معرفته المتعمّقة بالفكر الإسرائيلي، من منطلق "اعرف عدوك"، الذي قرأ عنه ثمّ واجه مشاريعه في ثمانينات القرن الماضي، وأبدى خشية حقيقية من حرب مدمّرة في ظلّ غياب الروادع الأميركية التي أظهرت فشلها في غزّة ورفح "ولم تتمكّن من الضغط لإدخال المزيد من المساعدات".

استشراف الحرب جاء من تموضع واضح اتخذه جنبلاط منذ الثامن من أكتوبر، تاريخ بدء المواجهة بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، وهو دعم الحزب والجنوبيين ضدّ إسرائيل، انسجاماً مع موقفه التاريخي وموقف المعلّم كمال جنبلاط و"التقدّمي"، الداعم للقضية الفلسطينية والكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل، وإن كان يُفضّل تجنيب لبنان الحرب المدمّرة وعدم استدراج إسرائيل إليها.

ولا يستغرب متابعو جنبلاط موقفه من "حزب الله"، فقبله والده كمال جنبلاط كان في جبهة واحدة مع منظمة التحرير الفلسطينية لمواجهة المشاريع الإسرائيلية رغم ملاحظاته على انتشار السلاح الفلسطيني بشكل عشوائي في لبنان، واستمرّ جنبلاط الابن بالخطّ نفسه حتى انسحاب منظمة التحرير إلى تونس، وقاد القوى المواجهة لإسرائيل، أي الحركة الوطنية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول".

ويعلم متابعو جنبلاط أنّ الأخير لا يُصنّف في خانة قوى محور "حزب الله"، كالحزب "القومي" أو "البعثي"، فالاختلافات الداخلية والخارجية على حالها بين كليمنصو وحارة حريك، لكنّ جنبلاط يقرأ المشهدية بطريقة مغايرة وواقعية على النحو الآتي، المنطقة تمرّ بمرحلة تاريخية ومفصلية، أشبه بمرحلة "سايكس بيكو" جديد، والوقت ليس مناسباً للخلافات السياسية.

إلى ذلك، فقد تكون عبارة جنبلاط الأشهر، "عند صراع الأمم، احفظ رأسك". يقرأ جنبلاط متغيرات المنطقة، يُتابع التواصل العربي الإيراني والتطبيع الخليجي مع حلفاء إيران، من النظام السوري إلى "حزب الله"، ويعي أنّ لبنان أولوية إيرانية لا أميركية، وبطاقة في صالح طهران على طاولة المفاوضات والتسويات المرتقبة في "اليوم التالي" للحرب، فكيف يُعادي "حزب الله" ويقطع سُبل التواصل معه؟
 
لدى جنبلاط أولويات وهموم، الأول هو الحفاظ على الكيان اللبناني العربي في وجه محاولات تقسيمه أو ضمّه إلى محاور، ويُتقن لعبة التوازن بين الاتجاهين المذكورين، والثاني هو الهمّ الدرزي في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، ودائماً ما يُشدّد على عروبة الطائفة لأنّ استقطابها إلى المحور الإسرائيليّ سيقضي على دورها وحتّى تواجدها.

قد لا تكون مواقف جنبلاط مفهومة عند البعض في المرحلة المقبلة، ولكن الزمن سيثبت كما أثبت سابقاً صوابية خيارات جنبلاط بالاستحقاقات الكبرى، وعند الامتحانات التاريخية، لا مكان للشعبوية أو العواطف والغرائز، بل للعقل والقراءة الباردة، وفي هذا المنعطف المفصليّ، يتّخذ جنبلاط مواقفه من خبرة طويلة ويُحاول التخفيف من وطأة التسويات الدولية على لبنان وعلى الدروز.