صفحة جديدة للإقتصاد العالمي: هل انتهى عصر الدولار؟
27 يونيو 2024
17:15
Article Content
بعد خمسين عاماً، انتهت صلاحية اتفاقية البترودولار لعام 1974 بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، ما يعني أنه بات من المُتاح للسعودية بيع نفطها ليس فقط بالدولار الأميركي، إنما بعملات أخرى، وقد يكون هذا الموضوع اليوم هو الأبرز في الحياة السياسية والاقتصادية حول العالم، ولكن قبل معرفة تأثيرات هذا التغيير، ما هو البترودولار وكيف بدأ؟
بالرغم من أن الكثيرين ينفون وجود هكذا اتفاقية معتبرين أنها "من نسج الخيال"، إلا أن الدلائل والوثائق تُثبت وجود مذكّرة رسمية بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية آنذاك تنص على بيع المادة الطاقوية بالعملة الأميركية فقط، دون سائر العملات الأخرى ما أدى إلى ظهور مفهوم البترودولار، الذي يعكس نظاماً اقتصادياً ومالياً تهيمن عليه الولايات المتحدة، أكثر من كونه مجرد عملة للتبادل التجاري.
ولإبراز أهمية هذا الاتفاق بالنسبة لواشنطن، فتاريخياً حرصت على الحفاظ على هذا النظام المالي بشدة، حتى إنها شنت حروباً ضد كل من حاول التشكيك فيه أو تخطّيه، ويكاد يصعب فهم بعض دوافع حرب الولايات المتحدة ضد العراق عام 2003 أو مشاركتها في الإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا، دون النظر إلى قراراتهم بالتفكير في بيع النفط بعملات أخرى.
نشأة البترودولار
بدأت مفاعيل هذا الاتفاق، أو المذكرة إذا صح التعبير، بعد الحرب العالمية الثانية عندما اجتمع ممثلون عن حوالي 44 بلدا اتفقوا على دفن حقبة من الزمن وبدء حقبة أخرى، بصياغة أميركية معتبرين أنهم يريدون ثمن اشتراكهم في الحرب الأخيرة وما قدمناه من تضحيات وأموال وجنود. إذ إن الأثمان التي طلبتها أميركا كانت كبيرة وأهمها كان الايطاحة بالجنيه الاسترليني كعملة رئيسة في العالم آنذاك وطالبوا بربط عملتهم بالذهب بحيث لا يتم تداول الذهب أو تسعيره إلا بالدولار، وعلى هذا وقع المجتمعون وغادروا الى بلادهم وأميركا خرجت رابحة. حين إذن عمدت الدول الأوروبية والاقتصادات الناشئة بعد الحرب كاليابان وكوريا الى الالتفاف على الامتياز الأميركي وراحت تشتري الذهب وتخزنه ما تسبب بانخفاض مخزون الذهب حتى في أميركا نفسها. وفي قرار وُصف بالأجرأ تاريخياً، قرر الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون عام 1971 فك الارتباط بين عملة بلاده والذهب وكان هذا القرار سبيا لغضب الحثير من الدول والاقتصادات "المنافسة".
ولكن البديل كان جاهزا بالنسبة لواشنطن خاصة بعد حرب أوكتوبر عام 1973، ودخول دول عربيةٌ على خط دعم المصريين آنذاك وتحديداً السعودية بقيادة الملك فيصل بن عبد العزيز وإيقاف المملكة آنذاك تصدير النفط عن العالم وتحديداً عن الغربيين الداعمين لاسرائيل وبالرغم من أن أميركا دفعت ثمن هذا الموقف العربي السعودي لكنها كانت سعيدةً بأن الاوروبيين الذين كانوا أبرز المعترضين على انفراد الدولار على عرش العمولات كانوا هم يتألمون ايضاً، ولأن أميركا لا تقبل الخسارة عمدت على استدعاء ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر وعينته وزيراً للخارجية مطالبةً إياه بحلول لانهاء الأزمة بشرط أن تخرج أمريكا رابحةً من اي اتفاقٍ، وهنا بدأت تظهر ملامح البترودولار.
مع توجه كيسنجر إلى بلاد العرب وتحديداً إلى السعودية داخلا في مفاوضاتٍ طويلة مع الملك السعودي حتى تمكّن من إقناعه باتفاقٍ يرضي الجميع تحول فعلاً إلى اتفاقٍ تاريخيّ جرى خلاله ربط اسعار النفط بالدولار، ليس هذا فقط بل أيضا اشترط الأميركيون على السعوديين الاستثمار بالدولارات الكثيرة التي سيأخذونها مقابل نفطهم في أسواق وخزائن الأميركيين وذلك كي يضمن الأميركيون ألا تحدث أزمة أخرى للدولار وأن يبقى في أرضه وبين جمهوره، وفي المقابل كان للملك فيصل الذي كان معروفاً بمواقفه العروبية في الحقيقة شروط كبيرة وكثيرة أولها انسحاب الاحتلال الإسرائيلي إلى أراضي عام 1948 وسحب اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لاسرائيل وهم الذين كانوا اعترفوا بها في عهد الرئيس ترومان إضافة إلى اتفاق بيع أمريكا كل ما يريده السعوديون من أسلحةٍ وتكنولوجيا أميركية وعلى هذا وافق الملك ومضى الاتفاق، إلا أن بعض الشروط لم تطبّق من قبل الأميركيين ولعل اغتيال الملك فيصل في العام التالي للاتفاق هو أحد أسباب عدم ضمان تطبيق الشروط المذكورة.
ماذا بعد خمسين عاماً؟
الثابت الوحيد في السياسة خصوصاً هو أنها متغيّرة، لذا لا شيء يبقى على حاله وتغييرات كثيرة شهدها العالم في الفترة الماضية أهمها بروز اتفاق البريكس، واقتصاد الصين الذي بات أعظم المنافسين لأميركا والمشروع السعودي الكبير وتطورها الاقتصادي الذي بات يحسب له ألف حساب عالميا، ونمو اقتصادات البرازيل والهند وعديد التغيرات التي أصغر واحدٍ فيها كفيلٌ بتغيير معادلاتٍ واتفاقاتٍ حتى لو كانت كبرى بالتاريخ وهذا ما جرى فعلاً.
يكاد يكون أول أسباب انهيار هذا الاتفاق صعود العملاق الصيني الذي حول البلاد إلى أكبر مصنعٍ بالعالم وبات يبحث عن صدارة المشهد خاصةً وهو الذي اتخذ نهج الاقتصاد لتزعم العالم وما ينقصه فقط أن تصبح عملته العملة الأقوى عالميا ليودّع الولايات المتحدة، وهذا الأمر تسلكه الصين بخطوات عدّة لتوجه ضربة قاضية للدولار، والسبب الثاني هو "روسيا البوتينية" التي قال رئيسها ذات خطابٍ قريبٍ انه "كما مات عصر ارتباط الذهب بالدولار سيموت زمن ارتباط النفط بالدولار"، والتهديد الأهم يبقى الحركة السعودية التي كان قد بدأت منذ فترة بمحاولة فتح الباب أمام بيع بترولها بعملات غير الدولار وخاصةً العملة الصينية وهنا يبرز دور بيكين أكبر فهي تقود مع الرياض مشروعاً لدفن الدولار فيما لو تم سيفتح عصراً جديداً مختلفاً كلياً ولعله بات قريباً!
مفاعيل القرار عالميا!ً
وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي نديم السبع لجريدة "الأنباء" الالكترونية أن "ما يحدث في السنوات الأخيرة هو أن بعض الدول بدأت تأخذ احتياطاتها وتقوم بتنويع احتياطاتها المالية بعملات أخرى، منها الصينية والروسية".
وأضاف السبع "الفكرة القائلة بأن بيع النفط بغير الدولار سيؤدي إلى انتهاء هيمنة الدولار ليست صحيحة، ولكن الدول، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية في السنوات الثلاث الأخيرة، تريد تنويع احتياطاتها الماليّة في البنوك المركزية وعدم الاعتماد فقط على الدولار، خوفاً من أي تقلبات سياسية مع الولايات المتحدة قد تؤدي إلى فرض عقوبات"، إثر ذلك يعتبر خبراء أن هذا الأمر من الممكن إضافة إلى نهاية ارتهان النظام المالي العالمي للدولار الأميركي، يمكنه أيضا خلق عالم متعدد الأقطاب وهذا لا يعني فقط إعادة النظر في دور المؤسسات الدولية وإشراك نسبة أكبر من الدول في القرارات السياسية الكبرى، بل يعني أيضاً نهاية الهيمنة العسكرية التقليدية مع ظهور قوى عسكرية جديدة ودول ذات صناعة عسكرية متقدمة.
كل ذلك يؤكد أننا أمام مرحلة ستعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي وتؤثر على العلاقات السياسية والعسكرية، ويحدث هذا في ظل تسارع التغييرات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها العالم في السنوات الأخيرة.