الحبُّ في زمن التّكنولوجيا!

12 حزيران 2024 13:38:07

تشهدُ البشريّةُ منذُ التّسعينيّات طوفانًا علميًّا تكنولوجيًّا تجتاحُنا تأثيراتُه وتتوغّلُ في جذورِنا الإنسانيّةِ، ضاربةً عرضَ الحائطِ ما كانَتْ هذه البشريّةُ تتميّزُ بهِ منْ مشاعرَ راقيةٍ تسمو بها عن سائرِ الكائنات. ولم تتركْ هذه التكنولوجيا مجالًا واحدًا منْ مجالاتِ الحياةِ إلّا تغلغلَت فيه حتى باتَت جزءًا منه ومكوّنًا رئيسًا فيه. ولم يسلم "الحبُّ" نفسُه من هذا الاجتياحِ، فلبس ثوبًا مختلفًا وتزيّا مدنيّةً من نوعٍ آخرَ، وأصبحَت له أعرافٌ وبروتوكولاتٌ جديدةٌ عصريّةٌ تواكبُ التّقدّمَ المطلوب! وكانَ هذا التّوغّلُ التّكنولوجيُّ في الحبِّ موضعَ خلافٍ في وجهاتِ النّظرِ بينَ منْ يرى أنَّ ثورةَ التّكنولوجيا غيّرَت مفهومَ الحبِّ، وأفقدَتِ الاشتياقَ معناهُ والحبَّ رومانسيّتَه الجميلةَ، وآخرينَ يرَوْنَ أنَّ الحبَّ شعورٌ سامٍ وصامدٌ لا يرتبطُ بزمانٍ أوْ مكانٍ ولا تقوى أيّةُ تطوّراتٍ مهما كانَ نوعُها أنْ تغيّرَ في طبيعةِ الحبِّ أو أهميّتِه. فهلْ أثّرَتِ التّكنولوجيا على " الحبّ" سلبًا أو إيجابًا؟     

 بدايةً لا يمكنُ نكرانُ مساهمةِ التّكنولوجيا في إيجادِ وتوفيرِ وسائلَ جديدةٍ مختلفةٍ وعمليّةٍ للتّعبيرِ عنْ تلكَ العاطفةِ الإنسانيّةِ السّاميةِ الخالدةِ عبرَ الزّمنِ، فها هي وسائلُ التّواصلِ بمختلفِ مسميّاتِها تلعبُ الدّورَ الأهمَّ في عمليّةِ التّواصلِ بينَ المحبّينَ، فتربَّعَت ال" ماسجات" وال" مكالمات هاتفية" على عرشِ تلك الوسائلِ التي سهّلَت دروبَ العشّاقِ، فصارَ التّواصلُ ممكنًا في أيِّ وقتٍ يشاؤونَ، وبعدَ أنْ كانَتْ لغةُ الحبِّ بالعيونِ، صارَتِ اليومَ برسائلِ الهاتف! وكذلكَ في كلماتِ الغزلِ التي تحوّلَت الى قصائد" غبّ الطّلب" سريعةِ الاستحضارِ عبرَ شبكةٍ عنكبوتيّةٍ ساحرةٍ تحقّقُ المستحيلَ! وها هي المسافاتُ قدْ قصُرَتْ بينَ المحبّينَ فصارَ بإمكانِهم التّواصلُ منْ أيِّ مكانٍ في العالمِ، وصارَ الحبُّ عابرًا للحدودِ والجغرافيا. والأكثرُ منْ ذلكَ، أنَّ الحبيبَ صار افتراضيًّا أيضًا! نعمْ، صارَ بالإمكانِ تبادلُ المشاعرِ معَ أشخاصٍ افتراضيّينَ أوْ روبوتاتٍ تشبهُ الإنسانَ الى حدٍّ مخيفٍ! أيْ بمعنًى آخر صارَ بالإمكانِ الاستغناءُ عنِ الشّريكِ البشريِّ!. 

منَ النّاحيةِ المقابلةِ، منَ المؤكّدِ أنَّ هذه التّكنولوجيا ساهمَتْ في تبريدِ حرارةِ المشاعرِ ولهيبِها، لكونِها خنقَتِ الشّوقَ الذي كانَ يخلقُه ُالبعدُ والانقطاعُ، فلمّ يعدِ الفردُ يشعرُ بالشّوقِ بالمفهومِ القديمِ كما في الماضي حيثُ كانَ العاشقُ ينتظرُ الصّدفةَ لتجمعَهُ بحبيبتِهِ، وتكونُ هذه اللّحظةُ منْ اللّحظاتِ التي تنطبعُ في ذاكرتِه وذاكرةِ حبيبتِه، أمَّا الآنَ فلمْ يعدِ البعدُ يُضرمُ نارَ اللّهفة للقاءِ الأحبّةِ. كذلكَ فقدْ ماتَتِ الرّومانسيّةُ الجميلةُ وآهاتُ المحبّينَ وتنهداتُهم التي كانَت تختزنُها ورودٌ منَ الحبيبِ أوِ الحبيبةِ، تذبلُ وتجفُّ داخلَ دفاترِهم وكتبِهم، يحتفظونَ بها ويصونونَها على أنَّها شيءٌ مقدّسٌ! فلقدْ استُبدلَت تلك الوردةُ الحقيقيّةُ التي يفوحُ منها عادةً عبقُ الحبِّ بأخرى إلكترونيّة!  وقلْ ذلك أيضًا في الرّسائلِ الملتهبةِ التي كانَ العاشقُ يخطُّها بدمِ قلبِه وصدق إحساسِه لتصلَ الى الحبيبةِ، فاستُبدلت كلمةُ "أحبّك" وأصبحَ يُعبَّر عنْها الكترونيًّا برمزٍ للقلبِ!

إنَّ الحبّ لا يختلفُ مفهومُه معَ مرورِ الزّمنِ، لكنَّ ما يتغيّرُ هو التّصرّفاتُ والسُّلوكيّاتُ منْ حولِه، فلقدْ تدخَّلَت التّكنولوجيا التي قلّلّتْ منْ أهميّةِ النّاحيةِ العاطفيّةِ عندَ الإنسانِ، لكنْ يبقى المبدأُ القائلُ بأنَّ الحبَّ، سواء كانَ قديمًا أوْ حاضرًا، هو تواصلٌ صحيحٌ وصادقٌ، والميزةُ الوحيدة ُ للتّكنولوجيا أنَّها سمحَتْ لنا بالتّواصلِ معَ أحبَّائِنا بغضِّ النّظرِ أنَّها سلكَت في ذلكَ دربَ التّجارةِ والرّبحِ بعيدًا عنِ المشاعرِ الحقيقيّةِ، وهذا في حدِّ ذاتِه ما يهدّدُ بإفقادِ الحبِّ بهجتَه ومعناه ورونقَه الخاصَّ. إنَّ التّكنولوجيا قدّمَت لنا ما كنَّا نعتبرُه مستحيلًا، وهي لا تتوقّفُ لحظةً عنِ التّطوّرِ المستمرِّ، ما يجعلُنا نلهثُ خلفَها مُهَرولينَ لمواكبتِها والاستفادةِ منها قدرَ المستطاعِ، لكنَّنا في هذه الهرولةِ ننسى ونغفلُ إنسانيَّتنا الحقيقيّةَ التي تنازعُ وتحتضرُ موشكةً على لفظِ أنفاسِها الأخيرةِ في ظلِّ انجرارٍ أعمى خلفَ العلمِ والعقلِ متنكّرينَ لكلِّ ما يمتُّ إلى عواطفِنا وانسانيَّتِنا بصلةٍ! وأعتقدُ أنَّ الوقتَ قدْ حانَ فعلًا لإعادةِ النّظرِ في ترتيبِ حياتِنا وأولويّاتِنا بما يضمنُ فرادة َالجنسِ البشريِّ وتميّزَه قبلَ أنْ نندمَ حينَ لا ينفعُ النّدمُ!      

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".