في ظلّ غياب السياسات المؤسساتيّة… المعاناة النفسيّة للصحافيين مستمرّة

09 حزيران 2024 07:46:43 - آخر تحديث: 09 حزيران 2024 07:47:19

"لا يمكن أن أترك عملي، رغم أنّ الطّبيب نصحني بذلك لكي أحافظ على صحّتي. صدّقوني أنّ ساعاتٍ طويلة من العمل المتواصل مع الأخبار السيّئة في لبنان، عذابٌ بحذّ ذاته، وكلّ الضّغط النفسي انعكس على صحّتي وصرتُ أعاني من مشاكل في المعدة والمفاصل وأصبحتُ سريعة الغضب والانفعال"، هذا ما قالته ناي، وهي صحافيّة تعمل في غرفة أخبار احدى المؤسسات الاعلامية، لموقعنا.
قصة ناي تمثل حال العديد من الصّحافيين الذين يُعانون من الضغوطات باستمرار نتيجة طبيعة عملهم، خاصة مع عدم وجود سياسات مؤسساتية لدى وسائل الإعلام تكفل الصحة النفسية للصحافيين، بما فيها قانون الإعلام الجديد الذي يُدرَس في اللجنة الفرعيّة المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل ولا يتطرّق لهذا الموضوع.

"التفِتوا إلى صحّتنا النفسيّة!"

يتعرّض الصّحافي، بصفته أوّل الموجودين في الخطوط الأماميّة، للعديد من الصدمات التي قد تؤثر على صحته النفسية وتعيقه من أداء واجبه المهني على أكمل وجه، ولعلّ لسان حال العديد من الصحافيين في لبنان يقول: "التفِتوا إلى صحّتنا النفسيّة لنتمكّن من الاستمرار".
يؤكّد رامي، وهو مراسل في مؤسّسة إعلاميّة عريقة، أنّه يعشق عمله الذي يُمارسه منذ 7 سنوات إلا أنّ طاقته نفدت ما بات يؤثّر سلبًا على تركيزه، ويجعله يقع في الكثير من الأخطاء، وهذا ما جعله غير راضٍ على إنتاجيّته رغم خبرته الواسعة في الصحافة. وكان رامي قد تحدّث لموقع mtv عن صعوبة نقل الخبر مع الحفاظ على الموضوعيّة، خصوصًا إذا كان حدثاً أمنيًّا أو حالات إنسانيّة استثنائيّة.
من جهتها، تقول رشا وهي مُحرّرة في موقع الكترونيّ منذ 12 سنة، أنّ التعرّض لصور وفيديوهات وأخبار سلبيّة يوميًّا وعلى مدى طويل ليس سهلاً ولا يُمكن لأيّ إنسان أن يعتاد عليه من دون دفع ثمن تداعياته النفسيّة والعقليّة. وتُتابع: "أقرأ العبارة مرّتين وأكثر ولا أنتبه للخطأ، عيني لم تعد ترى وقالت لي المعالجة النفسيّة إنّ هذا كلّه نتيجة ضغط العمل والأوضاع غير الطبيعية التي نعيشها في لبنان، كلّ ذلك تراكم ويظهر تراجعًا في الإنتاجيّة".
وتؤكّد الاختصاصية في علم النفس والمعالجة النفسيّة شارلوت الخليل، أنّ التوتّر والقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصّدمة والاحتراق النفسي والنسيان من أكثر التأثيرات شيوعًا على الصحّة الجسديّة والنفسيّة في أوساط الصّحافيين.
وفيما يعتقد البعض أنّها تحدث فقط للصّحافي المراسل الذي يتعامل مع الأحداث المروّعة بشكلٍ مباشر، إلا أنّها في الحقيقة قد تصيب كل مَن يعمل لساعاتٍ طويلة في غرفة الأخبار أو وراء الشاشة، فالتّعامل اليوميّ مع الأحداث المأساويّة حتّى من خلال الكتابة والنّشر والتوثيق، يجعل الصّحافي في وضعٍ لا يُحسد عليه.

الصّحافي والضغوط النفسية

وتشرح الخليل، في حديثٍ لموقع mtv أنّ "الصّحافي يتعرّض في مهنته يوميًّا لضغوطٍ نفسيّة كبيرة، وتوفير فترات راحة كافية من الشروط التي يُمكن أن تُساعده على أداء مهامه على أكمل وجه".
"عدد كبير من الصّحافيين يصلون إلى حالة "الاحتراق الوظيفي" أي الـ" Burnout"، تقول الخليل. هذا عدا عن المشاكل النفسيّة والعقليّة الأخرى النّاتجة عن الضّغوط اللامتناهية التي يتعرّض لها كل من يعمل في مجال الإعلام والصّحافة، فتنعكس تداعياتها السلبيّة على حياته اليوميّة".
ويحقّ لأيّ صحافي مثلاً أن يرفض تغطية أيّ حدث يرى أنّه عاجز عن تحمّل ضغوطاته وفق ما تقول الخليل. وتُتابع: "توفير الدعم النفسي المهني من الأطر المطلوبة، بالإضافة إلى وضع حدود لساعات العمل الطويلة خصوصًا في حالات الطوارئ".
وتلفت الاختصاصيّة النفسيّة إلى أنّ هذا كلّه يُسبّب الإجهاد الجسدي والنفسي والعقلي، ولا يُمكن أن نتغاضى أيضًا عن العمل المتواصل تحت الضّغط في مهنة كالصّحافة حيث يُضطر الصّحافي إلى البقاء في حالة جهوزيّة تامّة حتّى في عطلته وأحيانًا يصل الليل بالنهار.
وتُعدّد الخليل ما يواجهه الإعلامي والصّحافي ويؤثّر سلبًا على صحّته النفسيّة: "الضّغط المعنوي والتعرّض المستمرّ لأمورٍ مزعجة كالصّور والفيديوهات والتغطيات المُباشرة، فهو في قلب الحدث، يضطر في حالات معيّنة أن يكون "على الأرض" أو في المكتب ضمن العمل، فيما هو قلق على عائلته وأصدقائه".
من هنا، تُطالب بزيادة الوعي في بيئة العمل من خلال تنظيم دورات تدريبيّة على كيفية التعامل مع الضّغوط النفسية، وخلق نوع من البروتوكول للدعم النفسي السريع للصّحافيين، والتوعية على كلّ الظّروف المفاجئة التي قد يتعرّض لها أيّ صحافي في الشارع مثلاً، كالمضايقات من الناس.

دور المؤسّسات الإعلاميّة

أمام هذا الواقع الصعب الذي يعانيه الصحافيّون في لبنان، تُشجّع الاختصاصية في علم النفس شارلوت الخليل على "الإلتزام بوجود اختصاصي نفسي في كلّ المؤسسات، خصوصًا الإعلاميّة منها، للتمكّن من دعم الصحافيين والإعلاميين"، لافتةً إلى أنّ هذا الاقتراح من شأنه أن يُحسّن الإنتاجيّة بشكلٍ كبير، من خلال تخفيف تعرّض الصّحافي للضّغوط وتداعياتها النفسيّة، ويعزّز الرفاهية العامة، ويعطي قدرة أكثر للصّحافيين على التأقلم.
وفي نداءٍ موجّه إلى المعنيّين، ترفع الخليل الصّوت، قائلةً: "يجب أن يركّز المعنيّون وخصوصًا النواب الذين يدرسون قانون الإعلام، على صورة الصّحافي كإنسان أي خارج نطاق الشاشة والخبر المكتوب. هكذا فقط يُمكن تفهّم الأبعاد وما يتعرّض له بشكلٍ دائم ولأوقات طويلة، وأطلب أن يتخيّلوا أنفسهم مكان الصّحافي ليتمكّنوا من استيعاب الضّغوط النفسيّة وتقدير أهمية أخذها بالاعتبار لتعزيز الإنتاجيّة وتحسين المجال الإعلامي من خلال وضع قانون يُفيد في هذا الإطار".

ويُفسّر المحامي فاروق المغربي أنّ "الشركات الكبيرة التي تهتمّ بموضوع حقوق الإنسان، لديها مدوّنة لقواعد السلوك أو نظام ذاتي يضمن حقوق العاملين فيها ويذكر بواجباتهم. في هذا الإطار، نسأل هل ينال الصحافيّون في المؤسسات الإعلاميّة في لبنان حقوقهم المادية والمعنوية والصحية الجسدية والنفسية؟"، مضيفاً: "هذا السؤال مهمّ، وهنا تظهر الحاجة لتشريع يحمي الحقوق وليس للتحكّم بهذه الفئة من الناس. فإذا طُرح تشريع لضمان حقوق العاملين في قطاع الإعلام، هذا مهمّ، ولكن إذا كان التشريع للرقابة والتحكم بمهمّة الصحافي، هذا أمر سيّء".
كما يقول: "يُفترض أن تُنظّم المؤسسات نفسها، ولو كان هناك عمل نقابي صحيّ، لشجّعت هذه النقابات المؤسسات الإعلامية على تشكيل أنظمة تحفظ حقوق الصحافي في المقام الأول، لأنّ الخوف هو من الذهاب إلى أنظمة تتحوّل إلى قيود للتحكم بالصحافي بدل من الحفاظ على حقوقه وضمانها".

بدوره سكرتير تحرير الأخبار في قناة الـmtv كبريال مراد، وردًّا على سؤال حول الإجراءات التي يتّخذونها في غرفة الأخبار للحفاظ على صحّة الصحافي النفسيّة، يقول: "لا إجراءات واضحة وكافية لدينا في هذا المجال، إنّما نسمح للصحافي عندما يشعر بالضّغط، بأخذ عطلة من العمل أو تبديل دوامه مع زملائه، ليتمكّن من استعادة نشاطه. وبطبيعة العمل، نحرص على مواكبة التغطيات الأمنية والخطرة من دون تعريض المراسل أو المصوّر لأيّ خطر. وهذا ما حصل في تغطية حرب الجنوب، لأنّ سلامة فريق العمل تتقدّم على السكوب الإعلامي".
من جهتها، تقول ريتا حداد، وهي مراسلة شابة تعمل في إذاعة محليّة عريقة، أنّ ضغط العمل يُلازمها حتّى خارج الدّوام وتلفت عبر موقعنا إلى أنّ "الصحّة النفسيّة في مهنتنا لا تؤخذ على محمل الجدّ، إذ كلّ ما يُتّخذ من إجراءات يقتصر على الحفاظ على السلامة الجسديّة للصحافي أثناء تغطيته الحدث".
بدوره، يقول رودي سعادة، الذي يعمل كمُحرّر أوّل في صحيفة دوليّة مكتبها في بيروت: "نتعامل مع صحافيين في بلدان تشهد صراعات مثل غزّة والسودان وليبيا والعراق، ونتفهّم بعضنا البعض كفريق عمل في حال حصول أيّ تقصير ناتج عن ضغط العمل لأنّنا في النّهاية بشر والإنسان لا يُمكن أن يتحمّل أكثر من طاقته… ولكن لا إجراءات إداريّة لدينا تُراعي صحّتنا النفسيّة. وما من صحافي في لبنان تؤخَذ في الاعتبار صحّته النفسيّة، وأحياناً يُعاملونه كأنّه آلة. لا أدري ماذا أقول، ما في اهتمام بالصحّة النفسيّة عندنا".

حقٌّ إنسانيّ أساسيّ غائب

يُعدّ الحقّ في حر?ة التعب?ر، المنصوص عليه في المادة 19 من ا?ع?ن العالمي لحقوق ا?نسان، شرط أساسي للتمتّع بكلّ الحقوق ا?خرى وفق الأمم المتّحدة، من هنا تحتلّ حر?ة الصحافة وس?مة الصحاف??ن الجسدية والنفسية الصّدارة.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان | الأمم المتحدة
وثيقة بارزة في تاريخ حقوق الإنسان، حدد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولأول مرة، حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالميا. تمت ترجمته إلى أكثر من 500 لغة.

وتُشير منظّمة الصحّة العالميّة إلى أنّ الصحّة النفسيّة حقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، وتدعو الحكومات والسياسيّين والسلطات الصحية والمجتمع المدني والمجتمعات إلى وضع الصحة النفسية ضمن أولويات الصحة والتنمية والعمل الإنساني.
ومن الأهداف التي تصبو إليها المنظّمة، ضمان تقديم خدمات الصحة النفسيّة والدعم النفسي والاجتماعي لمَن يحتاجونها، وتعزيز قدرة الأفراد والمجتمعات التي تُعاني من آثار الحرب والنزوح وحالات الطوارئ على الصمود.
بالعودة الى لبنان، حيث حقوق الإنسان غير ملموسة ، تمثّل الصحّة النفسيّة "مثاليّات" لا يُحكى بها وكأنّها قواعد "فضائيّة" لا تمتّ إلى اللبنانيّين بصلة. ويشرح النائب بلال عبدالله، في حديثٍ لموقع mtv، أنّ ما يُطرَح بشأن حماية الصحّة النفسيّة للصحافيين يندرج في إطار قانون عمل النقابات، كنقابة الصحافة ونقابة المحررين، وهذا الموضوع إجرائي ولا يدخل ضمن قانون تنظيم المهنة، فالصحّة النفسيّة لجميع المواطنين اللبنانيين، أمّا قانون الإعلام وتنظيم المهنة وغيرها من القوانين المرتبطة تهدف إلى تنظيم حريات الإعلام والهيكليّة الإعلاميّة، والمُحاسبة وكل هذه التفاصيل، ولا علاقة لها بالعنصر البشري وصحّته.