تحليل سطحي ومجتزأ للتاريخ... متى يخرج البعض من أسر التعصّب وذهنية الإنغلاق؟
بين لبنان الصغير والكبير... كمال جنبلاط أراده دولة عصرية مدنية عابرة للطوائف
28 أيار 2024
10:42
Article Content
لعل الغوص في التاريخ سيف ذو حدين.. الحد الأول يتمثل في الإضاءة على محطات وتحولات سياسية أنشأت دولاً بكياناتها الجغرافية والسياسية والإجتماعية، فيما الحد الثاني يصب في التحليل السطحي أو المجتزأ أو الإنتقائي للتاريخ أو حتى تطويعه في غير نصابه، من قبل البعض الذي يلتقط شذراً من جزئيات التاريخ ويحلل حولها بما يشاء ويتمنى بعيداً عن الواقع.
وفي الحديث عن التاريخ وصناعته، يحل المعلم الشهيد كمال جنبلاط في الصدارة. وهو كان وصف واقع ومسيرة لبنان بالقول: "قصة الوضع في لبنان هي قديمة وحديثة في آن واحد، تتشابك وتتفاعل وتتعاكس بشتى التيارات السياسية والحضارية، كأن هذا البلد الصغير وجد ليكون محوراً لإختبارٍ هو من صميم كيانه وجوهر حياته".
فمنذ بداية القرن التاسع عشر، ومروراً بنظامي القائمقاميتين والمتصرفية وحتى إعلان دولة لبنان الكبير، كان لبنان صغيراً برقعته الجغرافية وإستراتيجياً بموقعه وتأثيره نظراً لتنوعه وغناه الثقافي والإجتماعي والحضاري والإقتصادي، وقد اقتيد في ظل الإحتلال والإنتداب إلى مسلك واقع سياسي طائفي، عوضاً عن أن يسير في مسار حركات التحرر الوطني التي طالت عددا من دول المنطقة آنذاك.
ولعلّ تجربة سنجق جبل لبنان التي إستمرت حتى عام 1914 كانت "التجربة الطائفية السياسية الأولى"، على حد تعبير كمال جنبلاط، معتبراً أنه كان لا بد "من أن تترك آثار ورواسب في النفوس وفي العادات العامة وفي طريقة مواجهة الأمور".
وعلى الرغم من الصورة التذكارية "الجامعة" على درج قصر الصنوبر في بيروت في عام 1920، حين أعلن الجنرال الفرنسي غورو نشأة هذا البلد، كانت ملامح السنوات التالية مغايرة، سيما أن نتاج هذا الحدث المؤسس لم يكن وليد ساعته لا بل بدأ التحضير له منذ العام 1918. في ذاك العام، إجتمع مجلس إدارة جبل لبنان، وقرّر توجيه وفد إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض المسألة "اللبنانية". وتألف الوفد من خمسة أشخاص من العائلات الروحية في جبل لبنان، هم: داوود عمون رئيساً، وإميل إده، ونجيب عبد الملك وعبدالله الخوري سعادة وعبد الحليم الحجار.
أما الخطوة الفيصل التي إتخذها المجلس بتاريخ 16 حزيران 1919، فكانت تشكيل وفدٍ برئاسة البطريرك الياس الحويك للتوجه إلى مؤتمر الصلح لتجديد المطالبة باستقلال لبنان وتوسيع نطاق متصرفية جبل لبنان الذاتية الحكم، ليشمل حدوده التاريخية والجغرافية المطابقة للخريطة التي رسمتها البعثة الفرنسية للبنان في العام 1860، والتي عارضها الحكم العثماني آنذاك، حيث قُضمت المناطق والمدن التي تحتوي سهول ومرافئ، وتعد كذلك إمتداداً للإمارتين المعنية والشهابية قبل تشكيل متصرفية جبل لبنان عام 1861 إثر تدخل الدول الأوروبية.
"أزمة لبنان السياسية بين لبنان الصغير ولبنان الكبير" تناولها المعلم الشهيد في ما كتبه في "لبنان والجسر الوطني المقطوع"، مستعرضاً ومحللاً مجرى التطورات والأحداث وتأثير سياسات المحتل على الواقع القائم وكيف تلقفتها الأطراف المحلية حتى 1920. وقال: "لمّا وُلد لبنان الكبير أي لبنان الحالي، في إعلان شهير للجنرال غورو سنة 1920 الحق بجبل لبنان الأقضية الأربعة، بما فيها مدينة بيروت والبقاع وبلاد بعلبك وشمالي لبنان وطرابلس وجنوبي لبنان، عاش أبناء جبل لبنان، وما زال قسم كبير منهم يعيش بالذهنية ذاتها، بالأساليب والعادات السياسية، وبالوهم وبالعوامل والإنفعالات التي كانت تسيطر عليهم وعلى أوضاعهم في ظل لبنان الصغير. وفي الواقع خفي على أبناء لبنان الصغير أنهم هم انضموا الى لبنان الكبير وأقضيته الأربعة، لأن هذه الأقضية تفوقهم أضعافاً عدة مساحة وعدد سكان".
هذا التحليل الذي تلاقى مع تطورات سياسية لاحقة تفضي الى رفض المسلمين الإنضمام الى دولة "مارونية" إذا جاز التعبير، تحت الاحتلال الفرنسي. ويستخلص المؤرخ كمال الصليبي في بحث حول تاريخ الموارنة في سلسلة "ملف النهار" العام 1970، أنه مع نهاية الدولة العثمانية حققت فرنسا حلم الموارنة بـ "إعلان دولة لبنان الكبير بالحدود الحاضرة كدولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي"، خصوصاً أن الامتداد العربي كان يقلق الموارنة تحديداً وغذاه الانتداب الفرنسي، وبالمقابل يتوق اليه المسلمون.
وبعد إعلان دولة لبنان الكبير بفترة وجيزة، كان لوجهاء وشخصيات مسلمة مواقف غير مرّحبة، بحيث وجهت مذكرات الى الممثلين للإنتداب الفرنسي وعقدت إجتماعات ولقاءات تفضي الى رفض الانضمام إلى "لبنان الكبير". وحملت فيما بعد السنوات اللاحقة منعطفات وليونة في موقفهم من كيانية الدولة اللبنانية وامتدادها الثقافي والسياسي، إلى أن وقعت المعاهدتين السورية – الفرنسية واللبنانية الفرنسية في العام 1936 والتي كرّست "الجمهورية اللبنانية" دولة قائمة بحد ذاتها، سيما أن لجنة الخارجية في البرلمان الفرنسي لم تقر المعاهدة.
وفي كل ما سبق ذكره كان للمعلم الشهيد كمال جنبلاط قراءة منبثقة عن تحليل شامل، لم يكن فيها للعاطفة مكان، يعود الى جذور الأحداث السياسية في مختلف الحقبات التاريخية، وما أنتجته من خلاصات حددت وجهة مستقبل هذا البلد.
ففي الوثيقة التي أذاعها في مؤتمر صحفي عقده في 20 آب 1976، قال المعلم: "حدثت قطيعة عام 1864 حين ابتدعت أوروبا لبنان الصغير وراحت ترعاه الى حين الاحتلال العثماني للجبل عام 1914 وإلغائها ذلك الضرب من الإستقلال الذاتي الذي كانت البلاد تنعم به. وفي خلال هذا الإنعطاف التاريخي – أو هذه الفجوة التاريخية- إعتاد المسيحيون أو بالأحرى الموارنة، على أن يتمتعوا في داخل متصرفية الجبل ببعض السلطة التي كانوا يسيطرون يومها على لبنان الصغير ذاك، ولكن بصورة معتدلة نظراً لأن التمثيل الدرزي داخل مجلس إدارة المتصرفية: 'مجلس الإدارة الكبير' كان من الأهمية بمكان".
ورأى المعلم في الوثيقة أن هذه الفترة "التي تشبه الجملة الإعتراضية" والتي دامت خمسين سنة "لعبت لدى الموارنة دور الذاكرة التاريخية المكتسبة حديثاً، والمنشِئة لنزعة جديدة تنحو الى إرادة حكم البلاد بصورة دائمة. غير أن الإنتداب الفرنسي كرّس تطلعات الطائفة المارونية عندما أعطاها شكلاً معيناً ووهبها السلطة، تلك السلطة التي لم تكن قد مارستها قبل ذلك مباشرة ولا مداورة".
واعتبر المعلم أن "هذه التناقضات في المجتمع اللبناني بين شعور الإنتساب الى لبنان الكبير، وشعور الإنتساب للبنان الصغير، بين طائفية الماضي وقومية المستقبل، بين الفرقة والتوحيد، كانت ولا تزال إحدى الأحجار التي يتعثر بها النظام الديمقراطي اللبناني في سيره وتحقيقه"، مشدداً على "أنها أثرت تأثيراً بالغاً في منع قيام الأحزاب العلمانية السليمة في البلاد، في توقيف عجلة التطور وفي لجم التيار الشعبي النازع الى التوحد، وفي إنخفاض مستوى التمثيل، إذ أصبح الصراع بين عصبيات مريضة، لا بين أفكار ومبادئ".
وفي ظل التحولات الكبرى في رحلة الدولة اللبنانية وسياسة "فرّق تسد" للمحتل والمنتدب، وبعد استقلال لبنان في العام 1943، إنصب المعلم على وضع أسس دولة عصرية، فكانت الخطوة الأولى بتأسيس الحزب التقدمي الإشتراكي، العابر للطوائف، بميثاق متقدم ورؤيوي، وما تلا ذلك من تأسيس الجبهة الإشتراكية الوطنية التي أطلقت البرنامج الإصلاحي الأول والثورتين البيضاء والحمراء والنضال من أجل الإصلاح والحفاظ على الهوية العربية لحين إستشهاده في العام 1977.
وعليه، لبنان كمال جنبلاط كان أبعد من دولة بحدود أو تقسيمات طائفية، وهو الفيلسوف والسياسي الذي غرس بذور البرنامج الإصلاحي السياسي للحركة الوطنية من أجل لبنان علماني وحديث، وهو أيضاً من رفض الدخول وراء قضبان السجن العربي الكبير، وهو كذلك من وقف في وجه مشروع تقسيم المنطقة بمعية دولية وتأييد دول كبرى.
لبنان كمال جنبلاط حمل نفحة فلسفية مجردة من أي تعصب وعصبية، لا بل كان عماده وجوهره معايير سياسية علمية خالصة، جسدها في قوله: "بالحقيقة، لا نريد في لبنان لا معالم "الصليبية" ولا معالم "الهلالية"، اي لا نريد في أي حال إقحام الدين في السياسة، إلا بما تفرضه الأخلاق من استيحاء مبادىء الروحية السامية .. إنما نريد نظاماً علمانياً ينسكب فيه أعلى ما في الأديان من روحية ومبادىء.. العلمانية وحدها هي النظام المسيحي والإسلامي الحقيقي، حيث تتحقق فعلاً المساواة والأخوة، وينتفي التعصب والتمييز". ففي عقل وفكر وروح كمال جنبلاط "الله محبة"، فهل يخرج البعض من أسر التعصب وقوقعة التحجّر وذهنية الإنغلاق؟
إعلان
يتم عرض هذا الإعلان بواسطة إعلانات Google، ولا يتحكم موقعنا في الإعلانات التي تظهر لكل مستخدم.






