مرّة جديدة يثبت الشرق الأوسط أنّه أرض المفاجآت غير المتوقعة أو المحسوبة. وجاءت حادثة سقوط المروحية الرئاسية الإيرانية، والتي ذهب ضحيتها الرئيس الإيراني ووزير الخارجية إضافة الى مسؤولين آخرين، لترفع من مستوى الغموض القائم أصلاً بسبب حرب غزة واحتدام السخونة في ساحات أخرى، حيث تقود إيران المحور المواجه لإسرائيل.
وفور شيوع خبر الحادثة، تركّزت التساؤلات حول نقطتين أساسيتين وهما: السبب الفعلي لسقوط المروحية، وتأثير غياب الرئيس الإيراني ووزير خارجيته على اتجاه الأحداث في المنطقة
وبالنسبة للنقطة الأولى، فإنّ الرواية الرسمية تؤكّد أنّ سبب الحادثة يعود للأوضاع الجوية العاصفة. لكن ثمة جوانب لا تزال غامضة وتستوجب انتهاء التحقيقات لحسم الجدل الحاصل.
وما زاد من حال اللغط الحاصل، سقوط مروحية الرئيس دون سواها، في وقت تابعت المروحيتان المرافقتان والمكلفتان حماية المروحية الرئاسية طريقهما.
كذلك هنالك تساؤلات حول سبب استخدام مروحية بدل الطائرة الرئاسية النفاثة، والكلام التركي المريب حول تعطّل أو إطفاء جهاز إرسال الإشارات الخاص بالمروحية.
وكان لافتاً لا بل غريباً أن تسارع إسرائيل من تلقاء نفسها بعد سقوط المروحية بساعات معدودة وقبل العثور على مكان الحطام، إلى الإعلان بأن ليس لها علاقة بحادثة سقوط الطائرة، وكأنّها تتنصل من حادثة مدبّرة لا حادثة نتيجة عوامل الطقس. مع العلم أنّ لإسرائيل موقع رصد استخباراتي متطور جداً في أذربيجان وبالقرب من الحدود مع إيران، وهو مخصّص لمراقبة العمق الإيراني.
وجاءت الإشارة الأبلغ تعبيراً مع إعلان واشنطن أنّها تلقت من إيران طلب مساعدة لتحديد موقع الطائرة، وأنّها لم تتمكن من ذلك لأسباب وصفتها باللوجستية. وفي وقت لم يتمّ تحديد هذه الأسباب اللوجستية، إلّا أنّ الخبر يكشف عن وجود علاقة مقبولة، أو على الأقل غير عدائية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بخلاف ما يظهر في الإعلام، وغداة المواجهة الصاروخية الجوية والتي تولت فيها واشنطن مهمّة قيادة إسقاط هذه الصواريخ.
أما بالنسبة الى الخلفيات الحقيقية لحادثة سقوط المروحية وفي انتظار انتهاء التحقيقات، فيمكن وضعها في إطار ثلاثة إحتمالات:
ـ حادثة ناتجة من عواصف الطبيعة، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، خصوصاً أنّ المناخ الإقليمي السائد في الكواليس لا يرجح العمل التخريبي الخارجي.
ـ ضعف التدابير الأمنية والإحترازية، ما خلق فجوات وبالتالي سمح بارتكاب أخطاء مميتة.
ـ حادثة أمنية مدبّرة بنحو متقن واحترافي وعلى مستوى عال من الدقة.
في الواقع ولّد النفي الرسمي الإيراني الفوري لأي عمل تخريبي انطباعاً بأنّ المنطقة اجتازت نقطة الذروة في النزاع البركاني الذي يلهب المنطقة منذ حصول عملية «طوفان الأقصى». لا بل أنّ مواقف إيران التي غلب عليها الهدوء الى جانب الشعور بالحزن والأسى، أظهرت أولاً أنّ الحادثة المؤلمة التي حصلت لن تكون لها انعكاسات دراماتيكية على المسار القائم في المنطقة. ووفق الشواهد التاريخية المتعددة فإنّ السياسة الخارجية الإيرانية كما القرار العسكري، إنما يخضعان لمرشد الثورة ويطبّقه الحرس الثوري، وهو ما يعطيه لقب «القائد». ومن الأمثلة المتعددة، مفاوضات الإتفاق النووي الذي أبرم عام 2015 وأظهر لاحقاً الدور الأساسي لمرشد الثورة، فيما المفاوضات كان يجريها وزير الخارجية.
كذلك حصل أن وصل الجناح الإصلاحي الى موقع الرئاسة، وعلى رغم من ذلك، بقي القرار على مستوى القوى المتحالفة مع إيران في بلدان الشرق الأوسط تابعاً للحرس الثوري ومن خلاله المرشد، وما كان لخاتمي أو روحاني أي تأثير. وهذا ما يؤشر في وضوح إلى عدم توقّع حصول تأثيرات كبرى على مستوى التوجّه السياسي لإيران. فهنالك تفاهمات كثيرة تحصل في كواليس سلطنة عمان، وهو ما كشفته التسريبات الأميركية عبر وسائل إعلامها، وأكّدت البعثة الإيرانية في نيويورك حصولها. وهذا ما يفسّر الى حدّ بعيد «لجوء» إيران الى طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية في البحث عن موقع سقوط المروحية. وقد يكون السبب الفعلي للإعتذار الأميركي تحاشي تحمّل أي مسؤولية لاحقة أو حصول أي جدل قد تسببه بعض الجوانب التي لاا تزال مبهمة في الحادثة التي حصلت.
وخلال الأسبوع الماضي، تمّ الكشف عن مفاوضات غير مباشرة حصلت في مسقط، بين وفد أميركي برئاسة بريت ماكغورك الديبلوماسي الخبير في الملف الإيراني، ووفد إيراني برئاسة القائم بأعمال وزارة الخارجية، والذي أصبح يشغل موقع عبد اللهيان بعد غيابه، علي باقري كني، وهو في المناسبة يُعتبر أحد أبرز المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي.
واللافت جداً في التعليق الإيراني على الخبر الذي كشفه موقع «أكسيوس» مسألتان:
الأولى أنّه أشار الى أنّ هذا الإجتماع ليس الأول، والأهم أنّه لن يكون الأخير. وهو ما يعكس جواً تفاؤلياً أو على الأقل جواً طرياً.
والثانية، أنّه لم ينف أنّ البحث تناول حرب غزة والساحات الأخرى، على الرغم من أنّ طهران كانت لا تتهاون في السابق في إشارتها الى أنّ مفاوضاتها تقتصر على الشأن النووي الإيراني، وأنّها لن تتطرّق الى شأن الساحات الأخرى.
أضف الى ذلك، أنّ الخبر المسرّب يشير الى ضرورة خفض مستوى التوترات عبر إيقاف حرب غزة وعدم توسيعها الى الساحات الأخرى. وإذا كان الجانب المتعلق بإيقاف حرب غزة يُعتبر من مسؤولية إدارة بايدن ودورها في الضغط على الحكومة الإسرائيلية، فإنّ الجانب المتعلق بعدم توسيع الحرب الى الساحات الأخرى يبقى من مسؤولية إيران صاحبة النفوذ و»المونة» على «حزب الله» والحوثيين.
ومن المنطقي الإعتقاد أنّ الزيارة التي قام بها بعد أيام معدودة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان الى السعودية وإسرائيل، تناولت المفاوضات التي حصلت في مسقط، إضافة الى الملفات المشتركة المتعلقة بالتطبيع مع اسرائيل والاتفاق الأمني بين واشنطن والرياض، أو في اختصار الجانب العريض لطريقة إعادة ترتيب خريطة النفوذ السياسي في المنطقة.
سوليفان عرض على نتنياهو أنّ الفرصة متاحة لإسرائيل للتطبيع مع السعودية شرط الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كما أنّه أشار الى أنّه ناقش مع السعوديين النسخة شبه النهائية حول اتفاقات أمنية واسعة بين البلدين. لكن الآمال لم تكن أساساً مرتفعة حول احتمال الحصول على موافقة نتنياهو. فرئيس الحكومة الإسرائيلية دخل فعلياً كلاعب في الانتخابات الرئاسية الاميركية، حيث يعمل على إضعاف حظوظ عودة بايدن. ما يعني أنّه يريد ويسعى الى إطالة أمد الحرب لحرمان بايدن من إمكانية استثمار الحلول الجاري رسمها في حملته الإنتخابية الصعبة. ولذلك لم يكن مفاجئاً الكشف عن تواصل حصل ولا يزال بين نتنياهو ومستشاري دونالد ترامب للسياسة الخارجية.
وفي موازاة ذلك، بلغت الضغوط على نتنياهو حدّها الأقصى وغير المسبوق، من خلال سعي المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر إعتقال في حقه ويؤاف غالنت. وستقرّر لجنة مكونة من ثلاثة قضاة ما إذا كانت ستصدر مذكرة الإعتقال أم لا. صحيح أنّ مذكرات الإعتقال السابقة في حق رؤساء ومسؤولين لم يُنفّذ أي منها، لكن لصدور هذه المذكرة تبعات معنوية هائلة على نتنياهو، حيث سيصبح قليل الحركة على المسرح الدولي، وهو ما سيجعله في موقع انتخابي ضعيف. وهو لذلك يحمّل البيت الأبيض مسؤولية أنّه لم يعمل على منع المحكمة من الوصول الى هذا الحدّ، وأنّ الرئيس الأميركي كان قادراً على ذلك.
وفق هذا المناخ، تمّ البدء بتحضير الساحة اللبنانية لتطورات كبرى محتملة بدءاً من حزيران المقبل. المناخ الأميركي تجاه لبنان تحرّك أكثر، وهو ما يعكسه كلام آموس هوكشتاين الذي جهّز كل ملفه لجنوب لبنان، وأيضاً رفع مستوى حركة «الخماسية» عبر بيانها اللافت وبدفع من السفيرة الأميركية التي باتت تمثل بلادها حيال الملف الرئاسي. وأيضاً بدأ مستشار الرئيس الفرنسي جان إيف لودريان يجهّز محرّكاته في انتظار لحظة الفرج والمتمثلة بإعلان وقف إطلاق النار في غزة.
والسفيرة الأميركية التي ستطير مجدداً الى واشنطن لحضور مؤتمر السفراء، من المفترض أن تجتمع مع مسؤولين في وزارة الخارجية وأيضاً في مجلس الأمن القومي، لأخذ التوجيهات الجديدة بعد المستجدات التي شهدها الشرق الأوسط خلال الأسبوعين الماضيين. وبالتالي يعوّل البعض على الأجواء الجديدة التي ستعود بها جونسون من عاصمة بلادها.
المشكلة أنّ جميع الأطراف ربطوا انفسهم بغزة، بحيث أنّ النزول عن الشجرة أضحى في يد نتنياهو واليمين المتطرف. وقد يكون لتهديد بيني غانتس بالاستقالة من الحكومة في الثامن من حزيران المقبل، علاقة بالتركيز الدولي القائم بالتعويل على تحقيق الاختراق الكبير في حزيران. لكن اللعبة المجنونة التي يندفع فيها نتنياهو لا تعرف حدوداً، لا بل أنّها أضحت في صلب النزاع الإنتخابي الأميركي الذي يزداد حدّة وربما عنفاً. وعلينا أن نتذكر دائماً أننا في الشرق الأوسط ساحة المفاجآت غير المتوقعة أو المحسوبة.