العودة الى اتفاقية الهدنة
21 أيار 2024
16:56
آخر تحديث:31 أيار 202410:59
Article Content
مع اشتداد وطأة القتال بين إسرائيل وحزب الله في الجنوب اللبناني، الذي بدأ منذ أكثر من سبعة أشهر، وفي ضوء عدم التوصل الى حلٍّ يوقف آلة الحرب الجهنمية تلك برغم الجهود التي يبذلها الفرنسيون والموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، وبرغم ربط حزب الله لوقف القتال في الجنوب بتوقفه في غزة، بدا موقف المسؤولين والزعماء اللبنانيين يعتمد الثوابت والمرتكزات التي توفرها القرارات والمعاهدات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701 واتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية للعام 1949.
وإذا كان القرار 1701 هو خاتمة سلسلة طويلة من قرارات تبناها مجلس الأمن لمعالجة الوضع المتوتر دائماً والمتفجر غالباً بين لبنان وإسرائيل بدءاً من حزيران العام 1967 تاريخ الحرب الإسرائيلية على الدول العربية الثلاث - مصر وسوريا والأردن، فإنّ المجلس نفسه يعتبر اتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية لعام 1949 لا تزال الأداة القانونية الصالحة لإدارة الوضع بين لبنان وإسرائيل، بدليل الإشارة في معظم قراراته ذات الصلة الى أهمية وضرورة احترام اتفاقية الهدنة وتفعيل أجهزتها والعمل بمضمونها ، أو الاستناد اليها كما في القرار 1701.
إلاّ أنّ سياسة العدوان والغطرسة التي تنتهجها إسرائيل في المنطقة عامةً، وتجاه لبنان خاصةً، أظهرت أنّها غير مكترثة للقانون الدولي ولا للشرعية الدولية، وغير معنية بالأمن والسلم في هذه المنطقة من العالم. فالدعم الذي وفّرته قوى عالمية عديدة لإسرائيل، أدى الى عجز الأمم المتحدة عن إرغامها على التقيّد بالقرارات والمواثيق والاتفاقات الدولية، ولا سيما تلك التي وقّعت هي عليها، ومن ضمنها اتفاقية الهدنة مع لبنان.
لكنّ ذلك لم يقلل من أهمية الاتفاقية ومن استمرار وجودها سواء في نظر فقه القانون الدولي أو في نظر الأمم المتحدة بهيئاتها المختلفة. وهكذا، فإنّ الاتفاقية شكّلت ضماناً قانونياً وعملياً للبنان، إذا أُحسن تطبيقها؛ كما شكّلت بالنسبة للأمم المتحدة آلية لضمان الأمن والسلم والاستقرار الدولي.
السؤال الذي يتبادر الآن: لماذا هذا الاعتبار للاتفاقية التي مضى عليها أكثر من سبعين عاماً؟ فهل هي من الأهمية بعد هذه المدة لتبقى قائمة ويجب التمسك بها؟ وهل تشكل فعلاً إطاراً قانونياً لضبط النزاع بين لبنان واسرائيل؟
إنّ الأهمية التي تكتسبها الاتفاقية ترجع لأسباب متعددة يندرج أكثرها في كونها صُممت لتكون أداة في يد الأمم المتحدة للإمساك بالوضع الأمني بين لبنان واسرائيل بأكمله ولخدمة الأمن والاستقرار في المنطقة وفي العالم، سيّما وإنّ الأمم المتحدة هي الطرف الثالث الموقّع على الاتفاقية، ولتكون تالياً مرجعاً يحتكم اليه الطرفان أمنياً في ما بينهما.
واتفاقية الهدنة هذه هي معاهدة دولية تتمتع بكل المواصفات التي حددها القانون الدولي، وهي تُلزم اسرائيل باحترام حدود لبنان المعترف بها دولياً. فالمادة الخامسة – الفقرة الأولى من الاتفاقية تنص على أن "خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين"؛ وهي الحدود التي يمكن العودة بها قانونياً الى تاريخ 10 آذار 1923 عندما أُبرم اتفاق بوليه – نيوكومب الذي رُسمت بموجبه الحدود بين فلسطين من جهة ولبنان وسوريا من جهة ثانية من قبل دولتي الانتداب - فرنسا وبريطانيا.
بالنسبة للإطار القانوني لاتفاقية الهدنة، فيمكننا القول أنّها جاءت أولاً مطابقة للشروط والأطر القانونية التي نصّ عليها قانون المعاهدات الدولية الذي كرّسته اتفاقية فيينا لعام 1968، بحيث أنّها دعت الى عدم اللجوء الى استعمال القوّة، وعدم القيام بأعمال عدوانية ضد الفريق الآخر أو التعرض للمدنيين. يضاف الى ذلك عدد من الأسباب والدواعي التي تدخل في إطارها القانوني وفّرت لاتفاقية الهدنة هذه القوة والقدرة على الاستمرار والبقاء كأداة ضابطة للنزاع، رغم تقادمها، وهذه أهمها:
1- الاتفاقية جاءت مندرجة تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وحظيت بتصديق مجلس الأمن:
إنّ اتفاقية الهدنة اللبنانية-الاسرائيلية قد وُجدت أساساً استجابةً لقرار مجلس الأمن رقم 62 تاريخ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948 الذي صدر بالاستناد للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولتأكيده على استمرار إمساكه بالوضع والنزاع بين الدولتين، ولاقتناعه بأهمية اتفاقية الهدنة التي أُنجزت ورعايتها وعدم السماح بمخالفة أحكامها، قام مجلس الأمن بالتصديق على هذه الاتفاقية بموجب القرار رقم 73 بتاريخ 11/8/1949. فالموقع الذي تحتله اتفاقية الهدنة ضمن الفصل السابع إذن، يعطيها قوة مطلقة، ويجعل تطبيقها من قبل أطرافها إلزامياً. أما عدم الاستجابة لشروطها، أو عدم تنفيذها بالمطلق، كما هو الحال مع إسرائيل، فيحمّل الطرف الممتنع المسؤولية الدولية.
2- الاتفاقية أسست هيئة دولية لمراقبة الهدنة لا تزال تعمل الى اليوم:
فللتأكيد أيضاً على أهمية الاتفاقية، وعلى جديتها وإصرارها على ضبط الوضع الأمني على الحدود، فقد نصّت على إنشاء لجنة دائمة لمراقبة الهدنة تتبع للأمم المتحدة هي "اللجنة الاسرائيلية-اللبنانية لمراقبة الهدنة" The Israeli-Lebanese Mixed Armistice Commission (ILMAC)، مهمتها الاشراف على تنفيذ الهدنة ومراقبتها، ويرأسها رئيس أركان هيئة الهدنة التابعة للأمم المتحدة ال UNTSO أو أحد كبار ضباطها. وهذه اللجنة لا تزال قائمة منذ العام 1949 حتى اليوم، وهي تعمل حالياً في إطار قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب.
3- الاتفاقية محايدة وتعطي ضمانات للفريقين:
إضافة لما ذكر أعلاه من أسباب تعطي الاتفاقية القوة القانونية لاستمرارها، فإنّ الأساس الموضوعي الأكثر قوة هو التوازن والحيادية اللذان صيغت بهما الاتفاقية. وهذه الصفة مستمدة من الضمانات التي أعطتها الاتفاقية للفريقين بالتوازي. فهي قد حرصت على احترام أمن الفريقين والاطمئنان لعدم تعرض أي منهما لهجوم مسلح من الفريق الآخر، كما فرضت بشكل صريح قيداً على القوات النظامية وغير النظامية لجهة عدم اعتدائها على قوات الفريق الآخر وبشكل خاص ضد المدنيين أو تجاوز خط الهدنة (أي الحدود).
4- محدودية القوى المتمركزة على الحدود:
نصّت الاتفاقية في الملحق على تمركز قوى عسكرية ذات طابع دفاعي على طرفي خط الهدنة، لا يتجاوز حجمها أكثر من 1500 عسكري من كل طرف مع أسلحة وتجهيزات محددة. وتتمركز القوى في الجانب اللبناني الى الجنوب من الخط الممتد من القاسمية غرباً الى حاصبيا شرقاً، وفي الجانب الاسرائيلي الى الشمال من الخط الممتد من نهاريا غرباً الى ماروس شرقاً.
في الختام، وبعد أن بيّنا الإطار القانوني لهذه الاتفاقية، ومرجعيتها وفقاً للقانون الدولي؛ وبعد أن بيّـنا أهميتها كأداة للحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، لجهة وقوعها في الفصل السابع الأكثر أهمية وقوة في ميثاق الأمم المتحدة، يتبيّن لنا أهمية الاتفاقية المطلقة بالنسبة للبنان لجهة الحفاظ على سيادته وحماية حدوده وأمنه الإقليمي وعدم التفريط بثرواته الوطنية المستفادة من نصّ الفقرة الأولى من المادة الخامسة من الاتفاقية التي تعترف بحدود لبنان الدولية. وهنا أستشهد بما كتبه المغفور له الأستاذ غسان تويني في تقديمه لكتابي "اتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية للعام 1949 في ضوء القانون الدولي" الصادر عن دار النهار للنشر عام 2003، يقول:
"يطيب لي – أنا بالذات – أن أؤكد، من زاوية مشاركتي في مداولات مجلس الأمن وجلساته التي تناولت الاجتياح الاسرائيلي عام 1978 ثم عام 1982، أنّ القرارات التي ألزمت إسرائيل والدول العربية عقد اتفاقات الهدنة العربية-الاسرائيلية عام 1948، ثم كرستها عام 1949، هي اليوم، بالنسبة الى لبنان، أهم وأفعل من القرارات 425، 426، 508، 509، الى آخر السلسلة ...".
نخلص من هذا كله الى أولوية وأهمية أن يتمسك لبنان بوضوح، وعلى كل المستويات، باتفاقية الهدنة، باعتبارها حقاً للبنان ضمنه القانون الدولي ولايزال.
(*) بقلم العميد الركن (م) الدكتور رياض شـيّا
*أستاذ جامعي وباحث في القانون الدولي
إعلان