يدرك سفراء دول «الخماسية» أنّ القرار الضمني لدى «حزب الله» هو بعدم الذهاب إلى تسوية رئاسية قبل انتهاء الحرب على غزة والذهاب الى وقف لإطلاق النار في جنوب لبنان. وعلى رغم من ذلك، فإنّ «الخماسية» التي دعت إلى فك الترابط بين الرئاسة والحرب الدائرة، ستعمل على مجاراة المواقف المعلنة من خلال إيجاد حلول للذرائع المطروحة، في موازاة تحضير الملف الرئاسي ليكون جاهزاً حال الإعلان عن وقف إطلاق النار.
وكون واشنطن أبلغت إلى المعنيين والمهتمين بالملف الرئاسي اللبناني أنّها تسعى لإنجاز هذا الملف وانتخاب رئيس جديد في مهلة أقصاها شهر حزيران المقبل، فهذا يدفع الى الإستنتاج أنّ إدارة بايدن ترجح الذهاب الى وقف للنار في غزة في غضون أسابيع. وهذا ما يفسّر ما ورد في بيان الخماسية بعد اجتماعها أمس في السفارة الأميركية لجهة التوافق على إنجاز المشاورات المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي في نهاية شهر أيار، إضافة الى دعم جهود كتلة «الإعتدال الوطني» مع ما يعني ذلك من إيجاد الصيغة المطلوبة لقبول جميع الأطراف بالحوار أو التشاور الذي يطرحه الرئيس نبيه بري برئاسته، شرط أن يؤدي ذلك الى حتمية انتخاب رئيس عند نهاية الجلسات التشاورية.
وعلى رغم من ذلك، يدرك سفراء الخماسية ضمناً أنّ «باب الفرج» سيكون مع إعلان وقف إطلاق النار. والمسألة ليست تمسكاً شكلياً، بل لها مضامينها التفاوضية.
بداية، فإنّ السعي لإنجاز وقف إطلاق في غزة يزيد من الضغط المفروض على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. فإضافة الى البيان الختامي الذي سيصدر عن القمة العربية في البحرين وسيتضمن التزاماً بقيام الدولة الفلسطينية، مع تحذير يلمح الى احتمال تجميد التطبيع مع اسرائيل، هنالك ما يقلق أكثر نتنياهو، والمتعلق باحتمال صدور مذكرة توقيف دولية في حقه من خلال محكمة العدل الدولية. وهذه «حواجز» مؤثرة قد تمنع نتنياهو من استهلاك مزيد من الوقت.
ذلك أنّ هنالك انطباعاً بأنّ نتنياهو لا يسعى فقط الى القضاء على الجناح العسكري لحركة «حماس» ودفع الفلسطينيين الى خارج غزة، بل أيضاً كسب مزيد من الوقت لحسابات تتعلق ربما بالانتخابات الرئاسية الاميركية وإضعاف حظوظ الرئيس الأميركي جو بايدن أكثر، وبحسابات الشارع الإسرائيلي وتبدّل مزاجه الإنتخابي أيضاً.
في الواقع ثمة ضربات «تحت الزنار» تحصل بين بايدن ونتنياهو وصلت إلى حدود حجب إحدى شحنات الأسلحة والذخائر في سابقة تاريخية، والتي سرعان ما تراجع بايدن عنها، بعدما لمس مدى أضرارها على اليهود الأميركيين ولو كانوا من المعارضين لنتنياهو. فخطوة تجميد شحنات الأسلحة تطاول إسرائيل ككيان وليس نتنياهو فقط، على حدّ اعتبار هؤلاء.
وتابع اللوبي المؤيّد لنتنياهو «حربه» على بايدن من خلال إمرار معلومات صحافية مفادها أنّ الإدارة الأميركية حجبت معلومات استخباراتية عن إسرائيل حول مكان وجود قادة «حماس». وفي المقابل يجري تكرار الكلام الأميركي حول فشل الحكومة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها من الحرب، وأنّها حتى ولو دخلت رفح عسكرياً فهي لن تستطيع تحقيق نصر كامل وإنزال هزيمة صريحة بحركة «حماس». والهدف من ذلك منع نتنياهو مسبقاً من تسويق نفسه كمنتصر داخلياً.
وعلى رغم من ذلك، تعتقد الأوساط الديبلوماسية الأميركية أنّ الحرب فقدت زخمها وحيويتها، وأنّ نتنياهو لا يمكنه الذهاب بعيداً. وهي ترجح أن يكون الإعلان عن وقف لإطلاق النار مزيجاً بين مزيد من العمليات العسكرية المحدّدة والمنتقاة جيداً، والتي سيقوم بها الجيش الاسرائيلي، وتقدّم المفاوضات بعد تدوير مزيد من الزوايا. وهو ما يعني بـ»التقريش» الزمني أسبوعين أو ثلاثة، على ذمّة هذه الأوساط الديبلوماسية.
فالمنطقة يتمّ تحضيرها لمؤتمر دولي للسلام، هو في الحقيقة مؤتمر «يالطا» جديد، ومضمونه الفعلي إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي للمنطقة.
وخلف الدخان المتصاعد من غزة كانت قد جرت خطوات مهمّة ومتعددة حجبتها أصوات القصف العنيف، والتي تجاوزت غزة إلى لبنان وسوريا واليمن.
وكان معبّراً جداً أن يبقى الهدوء حول القواعد والمراكز العسكرية الاميركية في العراق وسوريا على رغم من اشتعال «المواجهة» الصاروخية بين إيران وإسرائيل، والتي قاد الجيش الأميركي مهمّة صّد هذه الصواريخ. قبل ذلك كان تمّ تفكيك المراكز العسكرية عند الحدود العراقية مع إيران للأكراد الإيرانيين المعارضين، والذين كانوا يشاغبون على الداخل الإيراني. ومعهم ابتعدت مجموعات «مجاهدي خلق» المناهضة بشراسة للقيادة الإيرانية. في العادة فإنّ خطوات من هذا النوع تُعتبر أثماناً مرتفعة لاتفاقات حساسة تجري في الكواليس وتعكس التزاماً واضحاً بعدم العبث بالبيت الداخلي. ولكن في العادة لهذه الأثمان أثمان مقابلة.
حتى في سوريا هدأت عاصفة الإستهدافات الجوية الإسرائيلية للإيرانيين. قد تبدو للوهلة الأولى نتيجة حتمية للمواجهة الصاروخية التي حصلت، لكن شيئاً من التدقيق قد يعطي تفسيرات أبعد، وهو أنّ واشنطن وضعت زيحاً أمام الطائرات الإسرائيلية. وهذا لن يعني بالتأكيد وقف النشاط الجوي الحربي الإسرائيلي في سوريا، بل قد يكون التوصيف الأدق: «إعادة ضبطه» ضمن معايير التفاهمات السياسية الجديدة. مع الإشارة الى التواصل المباشر والأول من نوعه منذ العام 2011 بين واشنطن ودمشق، وكذلك استمرار فتح الأبواب العربية أمام الرئيس بشار الأسد.
في هذا الوقت، يدور نزاع تنافسي بين إيران والأكراد على استمالة العشائر العربية غير المنظّمة سياسياً وغير المنضبطة تنظيمياً، وذلك عند الحدود الشرقية المهمّة لسوريا. الواضح أنّ النزاع يهدف الى ترتيب مساحات النفوذ، ولكنه نزاع مضبوط.
لكن المسألة الأهم لا تكمن هنا. الواقع أنّ إدارة بايدن تريد الإسراع في وضع ركائز الخريطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط لإقفالها أمام روسيا.
فعدا التمدّد الروسي المهمّ في دول غرب إفريقيا وعلى حساب التراجع الأميركي، ثمة ما يقلق واشنطن كثيراً وهو الساحل الإفريقي الشمالي. فبعدما ركّزت روسيا أقدامها في الجزء الشرقي لليبيا وعلى مقربة من قناة السويس، عمدت إلى تعزيز حضورها في ليبيا من خلال دعوة وفد يمثل قوى غرب ليبيا.
وعدا عن الأهمية الإستراتيجية للحضور الروسي على مقربة من قناة السويس، فإنّ الشاطئ الليبي يمثل باباً أساسياً للهجرة غير الشرعية في اتجاه جنوب أوروبا وتحديداً في اتجاه سواحل إيطاليا وفرنسا. وهذا ما يهدّد الاستقرار الداخلي لهذه الدول ويؤدي في الوقت نفسه الى ارتفاع شعبية اليمين المتطرّف، وهو ما سيظهر في الانتخابات الأوروبية. واستطراداً فإنّ المصالح الحيوية الأميركية في البحر المتوسط تصبح مهدّدة. وهذا ما استوجب الذهاب الى إنشاء الرصيف العائم قبالة غزة، والذي يشّكل في الحقيقة ربطاً ما بين قبرص وإسرائيل وقطعاً للتواصل البحري الروسي بين طرطوس وليبيا.
ومن هذه الزاوية تنظر واشنطن إلى الساحل اللبناني ومن خلاله إلى الاستحقاق الرئاسي ووجوب تحصينه من أي «خرق» قد يؤدي الى توسيع دائرة النفوذ الروسي عند شاطئ المتوسط. ولذلك، سعى البيت الأبيض من خلال آموس هوكستين الى إنجاز معظم النقاط التفاوضية للجبهة اللبنانية إختصاراً للوقت، ولكي تكون جاهزة مع انصياع نتنياهو لقرار وقف النار.
ولذلك، أيضاً يجري تحضير ملف الإستحقاق الرئاسي لكي يضحى بدوره جاهزاً عندما يحين موعد وقف إطلاق النار. وهذا ما تتولاه «الخماسية» وتواكبه قطر من قرب، أما الموفد الفرنسي جان إيف لودريان فهو يتابعه من بُعد في انتظار دنو الساعة. وهي المرّة الأولى في فترة الفراغ الرئاسي التي تتولّى فيها واشنطن تحديد موعد لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. وهو ما يدفع الى الإستنتاج أنّها ترتكز على معطيات وحسابات تطاول الصورة الشاملة المتعلقة بالمنطقة بكاملها.
يبقى انتظار التحرّكات التي ستكون مبرمجة وتصاعدية، ولكن الأهم نقطة الانطلاق، أو بتعبير أوضح، الإعلان عن وقف إطلاق النار.
في هذا الوقت، يدور نزاع تنافسي بين إيران والأكراد على استمالة العشائر العربية غير المنظّمة سياسياً وغير المنضبطة تنظيمياً، وذلك عند الحدود الشرقية المهمّة لسوريا. الواضح أنّ النزاع يهدف الى ترتيب مساحات النفوذ، ولكنه نزاع مضبوط.
لكن المسألة الأهم لا تكمن هنا. الواقع أنّ إدارة بايدن تريد الإسراع في وضع ركائز الخريطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط لإقفالها أمام روسيا.