شكّلت التباينات الفكريّة سمة الوجود الإنسانيّ منذ العصور الإنسانيّة الأولى، فقام جدل حيويّ بين فلاسفة ومفكّرين حول حقائق متفاوتة، ولم ينجح أحد في فرض حقيقته على الآخر، وبقي الجدل قائمًا بينهم، فعبّروا عن قضايا مثقلة بمسألتين: مسألة التطوّر ومسألة الوعي.
وإذا أصرّ هيرقليطس على أنّه "لا يجوز لأيّ كيان أن يوجد بحالة واحدة في وقت واحد"، فلم يتّفق مع فلسفة بامبينوس القائلة "بأن يبقى المرء على ما يكون عليه"، وكلاهما من مؤسّسي علم الوجود.
وإذا انحاز كونفوشيوس إلى المؤسّسات التقليديّة قابله انتقاد موتزو لهذه المؤسّسات، وإذا انتهى منطق ماركس إلى الجدليّة المادّيّة فإنّ منطق هيغل انتهى إلى الجدليّة المثاليّة، والعقل العلميّ عند هيغل عارضه على الطريق المعاكس العقل المجرّد عند أرسطو، وأشدّ المخالفين لأرسطو يتعرفون بفضله، وإذا توغّلنا بين جرير والأخطل والفرزدق في نقائضهم نجد أنّهم قضوا حياتهم يناقضون بعضهم أقوال بعض، ولا يغيب النقيض في المواجهة الّتي قامت بين الأشاعرة والمعتزلة في مسائل عدّة أبرزها العقل ، وفي مثل هذه الحال تناقضت فلسفة ابن خلدون مع فلسفة الغزالي.
وطاغور الّذي دعا إلى الانفتاح على الثقافة الغربيّة ساق هجومًا على أسلوب غاندي الّذي أحدث تغييرًا في أفكار الهنود تجاه الغرب. والمناظرة القلميّة أقامت الصلة بين الأمير شكيب ارسلان والشيخ ابراهيم اليازجيّ حول أحمد شوقي: أيكون شاعرًا أم ناثرًا؟ وفي صلب ظاهرة الجدل شهدنا أشهر المعارك الأدبيّة والفكريّة بين طه حسين والعقّاد وصادق مصطفى الرافعيّ، والخلاف بينهم دار حول أسلوب الكتابة الأدبيّة، والأدب العربيّ بين القديم والحديث.
وإذا ظهرت حركة القوميّة العربيّة رأى العلايلي فيها حقيقة واقعيّة، فيما رآها كمال جنبلاط حركة توسّعيّة لأمّة تفقد غيرها كيانها الذاتيّ. وقد يكون الإنسان ذاته، في محاولته الوعي بأشياء الوجود،غير متطابق مع ذاته.
لقد كشفت لنا وجهات النظر المتعاكسة لعبة التناقض. والتناقض هو تفاعل يستعصي ضبطه، يحفّز الإبداع، ويقود إلى شيء من الوحدة والتلاقي، ولحظتها نصل إلى الحقيقة.