الرجل الاكثر ارتيابًا بذات مكانته التى تواري ظله دوما في الامكنة العالقة على مداخل السلطة وابوابها، المحكمة الاغلاق عليه، الجامدة على احتساب الحركات الواهن الجانب، المشغول بحسن ابتداع الرضا الذي يحد طموحه المكبوت بأدلة الصمت، الذي لا يعير السمع لاذنيه، والمحتسب بحسن احاديثه لا بلسان سوءته.
يركن سيره على خطى التتبع هو ظلٌ، فاقدٌ شخصه في الركن الخلفي، هو المرئي اللارائي هو “الرجل الثاني” الذي ناء بصاحبه وبحمله، البدل الضائع، سجين الحدود مسبقة الترسيم، يتعلم الطاعة ولا يستطيع القيادة على ما كتب ارسطو ذات يوم .
دائما هذا الرقم "الثاني" الذي يحيله صاحبه "الاول"، قائما على شفا نشوة الوصول دون ان يبلغ لذة الحكم تنتابه حمى العرش لانه “كان لا ليكون” على عكس ولي علته الذي “لم يكن ثم كان“. هي لعبة الابتداع الاولى في الحكم و”العرش ” اعظم المخلوقات كما وصفه ابن حزم.
منذ ان تقلبت الادوار في السلطة البشرية في سطوتها وهيبتها، و“الرجل الثاني ” يقبع في سدة الانتظار على الركن الايمن لا يشبه الا الرقم الصفر تحسرا لانه على يساره لا يغير من قيمة العدد كما احتسب الخوارزمي عندما طور به الارقام الهندية وبلغت شأوها في الحساب والرياضيات حيث كانت اوروبا اللاتنية تظن هذا "السيفر" Cephir مأخوذًا من الدائرة وتعده من عمل الشيطان فاستدركته بعد الهنود و اخذته من العرب لفظا Zephiro الذي يعني الفراغ.
ما يجمع الشبه بين هذين الرقمين، "الصفر"، و "الثاني"؟ ما هذا الجناس والطباق في سطوة الحكم وازّمَته ؟، الصفر يدلل على اللاشيء متى جلس على يسار الرقم وتحديدا "الاول"، وهو الشىء مبدل الاحوال اذا استبقاه على يمينه.
“الثاني”، طالعُ حظِه، كيوم الاثنين من كل اسبوع او “كيوم القمر” على ما دأب في نعته اليونانيون. من خواصه العدل والمساواة والشراكة والتوازن، وان قيمة الارقام لا تنصف وتساوى الا بالقسمة عليه هو الرقم الزوجي (الثاني) الذي يعتبر اول رقم طبيعي بعد الرقم واحد ويشكل قاعدة لبناء الارقام كلها. وكيف سيكون الحساب لولا الرقمان الصفر والاثنان.
هذا الاخير الذي يجمع الليل والنهار والجنسين الذكر والانثى.
العرب عرّفوه قبل بزوغ الاسلام ب الاوهد مشتقا من الوهدة اي الانحطاط لانخفاض العدد من الاول الى الثاني، وبعض القبائل العربية اسمته الاهون .
لقد بالغت الاديان كلها بالمرتبة الثانية، فحل الانبياء والرسل ، واسطة الاعتقاد الخارق، والمؤتمن الخالص الذي يربط بين الله وبين الناس، الى ان اتى الامبراطور الروماني قسطنطين الاول واستحدث تسمية "الرجل الثاني" واحلّ مبدأ الخلافة الاسرية على عكس ما درج عليه سلفه دقلديانوس الذي عين رفيقه في الجيش كإمبراطور شريك والغى مبدأه المتمثل بالحكم الرباعي، و بتوزيع النيابة في السلطة بين السياسة والعسكر .
ومنذ ذاك الوقت الرجل الثاني يرى ولا يُرى سيان عنده وهج العتمة او وضح النهار، وعاش يقضي حياته يترقب ايامه ذات الاحلام الخافتة يحدث نفسه عن نفسه ولا يجرؤ ان يراودها عن صاحب المقام الاول، ويبقى خلف الستار حيث ان القائد الذي يدير الاوركسترا، يجب ان يدير ظهره الى الجماهير والى نزيلها المستديم بينها "الرجل الثاني".
اما في السياسة المعاصرة، فان"الثاني" قليلا ما يحالفه الحظ ، ولا يخالفه ويعتلي منصة الحكم مثلما فعل اول نائب رئيس امريكي جون ادامز John Adams في تاريخ الولايات المتحدة الذي حل بعد رئيسها الاول جورج واشنطن George Washington ليكون ثاني رئيس للبلاد بعد انفصالها عن بريطانيا.
وغالبا ما يكون الرجل الوحيد الذي يعيش بلا اوهام و يموت لاجلها، ويصحو لزوم ما لايلزم ، لا محل له في صنع القرار، يفر من قاتله مثل ليون تروتسكي Leon Trotsky نائب الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين Vladimir Lenin، الذي ارداه في المنفى الرجل القوي في الحزب وليس وفق التراتبية جوزف ستالين Joseph Stalin. عاش الرجل الثاني، العمر بطوله على حافة الانتظار ومات شريدا من دون ان يعرف تنفيذ الاوامر .
في سياسة العوام هذا “الثاني “هو الحائر والغائر والمسكون بحضرة القائد والزعيم والرئيس، المسافة بين الاول والثاني ليست ارتفاع درجة واحدة في سلم السلطة، بل هي حقبة من الزمن وقد تكون مترامية البعد البعيد بين الاول والاخير. في وطننا العربي وحده سيبقى يفكر مثل الرجل الاول و ينصاع مثل الرجل الثالث ويفعل، هو الرجل الثاني الذي عاش يشعر بالغربة والعزلة في الحياة والفراغ والمنفى .
ولكنه، غالبا ما يموت }الرجل الثاني" وفيه شئ من متى؟
*مدير العام لوزارة الاعلام