من باريس الى بيروت: "الثنائي الغربي" يتحرّك

22 نيسان 2024 08:53:20

ليس من المبالغة أبداً اعتبار اجتماع باريس محطة أساسية ومنعطفاً قد يأخذ لبنان الى درب الحلول التي طال انتظارها، شرط ألّا تطرأ مستجدات سلبية أو عرقلات غير محسوبة.

وأهمية اجتماعات باريس أنها تأتي بعد حصول تواصل أميركي-فرنسي على مستويين أدّيا الى تبديل واشنطن لموقفها تجاه لبنان، والانتقال من مرحلة المراقبة والمتابعة الى مرحلة وجوب التحرك لإنتاج حل في لبنان. والمستوى الأول حصل من خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن الى باريس حيث ألحّ الرئيس الفرنسي على ضرورة الإلتفات الى الساحة اللبنانية بعد أن أصبحت على شفير الفوضى الشاملة. ونجح ماكرون في إقناع بلينكن، خصوصاً أنّ قصر الإيليزيه كان يُبدي على الدوام ثناءه وتقديره للوزير الأميركي بخلاف المشاعر الباردة والحَذِرة تجاه مستشار الرئيس الأميركي آموس هوكستين.

أما المستوى الثاني فجاء تتويجاً لزيارة بلينكن الى باريس، حيث توجّه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان على رأس وفد الى واشنطن والتقى هوكستين في لقاء مطوّل أثمرَ تفاهما أميركيا - فرنسيا على خطة تَحرّك موحّدة في لبنان.

وبالفعل بدأت الساحة اللبنانية تشهد اهتماما جديا يختلف بشكل كامل عن الروتين الرتيب الذي كان قائما طوال المراحل الماضية. وقبل التطرّق الى جديد التطورات على الساحة اللبنانية، لا بد من استخلاص بعضٍ من نتائج اجتماعات العاصمة الفرنسية.

- نتيجة الشروحات الكثيرة والعديدة والمعزّزة بالمستندات والمعطيات، والتي تولّاها كل من الرئيس نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون، أبدى ماكرون اقتناعه بضرورة السعي لإيجاد حل جذري لمشكلة النازحين السوريين في لبنان، واستعداده للسعي لدى الإتحاد الأوروبي لإيجاد السبيل العملي لإعادة هؤلاء الى أماكن آمنة داخل سوريا حتى ولو تطلّبَ الأمر التواصل المباشر مع السلطات السورية. وهي خطوة كبيرة ولكنها ما تزال تحتاج لموافقة ألمانيا.

- حول البند المتعلّق بالحرب الدائرة في الجنوب، فإنّ الورقة الفرنسية والتي خضعت لبعض التعديلات جرى نقلها من جديد الى كل من لبنان وإسرائيل، على أن يتولى الرئيس ميقاتي التنسيق مع الرئيس بري و«حزب الله» قبل أن يبلغ باريس بالجواب اللبناني. أما فرنسا فهي ستتولّى التواصل مع الإسرائيليين لأخذ جوابهم، وهو ما سيسمح بالانتقال الى المرحلة التالية. وثمّة ملاحظة أساسية بأنّ التنسيق سيبقى قائماً مع واشنطن والتي تمنح الفرنسيين دعمها.

- المهمة التي سيتولّاها الجيش اللبناني والسعي لتأمين كافة متطلباته. وجرى الحديث عن عدة مراحل تبدأ بالمرحلة صفر وهي تتضمن التحضيرات الإدارية المطلوبة بانتظار حصول وقف إطلاق النار المرتبط بالوضع في رفح وعندها تبدأ المرحلة الأولى أو المباشرة بالتطبيق. وفي هذه المرحلة يبدأ تطويع ألفي عنصر في الجيش من أصل سبعة آلاف سيجري تطويعهم على دفعات متلاحقة، وسيجري العمل على تدريبهم وتجهيزهم كي يباشروا مهامهم ميدانيّاً في غضون ثلاثة أشهر الى أربعة. وستتولى باريس وإيطاليا العمل والمساعدة في تجهيزهم. وفيما اشترط قائد الجيش على إلزامية إنجاز التسوية السياسية كمقدمة لولوج كلّ هذه المراحل ولتحاشي أي التباس أو «نقزة»، فإنّ الأسبوع المقبل من المفترض أن يشهد بدء اللجنة العسكرية اللبنانية والفرنسية والإيطالية تحرّكها لوضع آلية للدعم المالي الذي سيجري منحه للجيش اللبناني.

- أما في أزمة الإستحقاق الرئاسي فإنّ ماكرون شدّد وبوضوح وأمام الجميع بوجوب فصل هذا الملف عن تداعيات الحرب الدائرة في غزة، ووجوب الإنطلاق سريعاً في إنجاز الانتخابات الرئاسية. وفيما ألمحَ بوجود توافق كامل مع واشنطن تحدثَ لودريان في الغداء عن أنه لا وجود لتعدّد في آراء اللجنة الخماسية في بيروت، «فهنالك رأي واحد لا غير». وإشارة لودريان التي تقصد المجاهرة بها بصوتٍ واضح أمام الجميع قد يكون أراد من خلالها الإشارة الى مرحلة جديدة من التحرّك بدفعٍ أميركي واضح، وهو ما كانت تفتقده «الخماسية» سابقاً.

وثمّة ملاحظة إضافية بغاية الأهمية وتصبّ في الإتجاه نفسه أورَدها لودريان همساً وبشكل سريع، بأنّ شهر حزيران يجب أن يكون حاسما في لبنان.

وفي وقت تعمّدت الدوائر الفرنسية الإشادة بشخصية وإدارة العماد جوزف عون لكامل المراحل الصعبة التي مر وما يزال يمر بها لبنان، فهي أضافت بأنه يحظى باحترام وتقدير فرنسي ودولي. وفي الوقت نفسه أبدَت مصادر ديبلوماسية فرنسية رفيعة قلقها من المخاطر المحيطة بلبنان والتحديات الموجودة، والتي يُضاعِف من أهوالها الخفة وعدم المسؤولية التي يتعاطى بها العديد من المسؤولين، وهو ما يبعث على الحزن. وتابعت هذه المصادر بأنّ الجهود الكبيرة التي تبذلها فرنسا قد تذهب في الهواء إذا لم يواكبها المسؤولون اللبنانيون عبر تقديم المصلحة العامة فوق مصالحهم الصغيرة والشخصية الضيقة.

وهذه الأجواء الواعدة ولو بشيء من الحذر من باريس لاقَتها إشارات مُشابهة في بيروت.

فيوم الثلاثاء المقبل ستلتقي اللجنة الخماسية الرئيس نبيه بري ولكن من دون السفيرة الأميركية الموجودة في واشنطن، على أن يحلّ مكانها أحد ديبلوماسيي السفارة كي لا تحصل تفسيرات في غير مكانها. وستضع «الخماسية» النتيجة التي توصّلت إليها بين يدي الرئيس بري، وسيستمع أعضاؤها الى أجوبة بري لناحية انعقاد جلسة انتخاب الرئيس، وفي ضوئها يقرّرون خطوتهم التالية.

لكنّ المستجدات لا تكمن هنا بل داخل الخماسية. فالسلوك البارد والصارم والمراقب الذي واكبَ وصول ومشاركة ليندا جونسون في الخماسية اختلفَ خلال الأسابيع القليلة المنصرمة. فمشاركتها أصبحت أكثر حيوية وجدية، فبدلَ التروّي والتمهّل أصبحَ هنالك إلحاح بضرورة الإسراع في التحرّك والضغط أكثر لإحداث الخرق المطلوب. ومن الواضح أن تعليمات جديدة تلقّتها من رؤسائها في هذا الإتجاه. صحيح أنها كررت موقف بلادها بأن لا مشكلة لديها بالأسماء لكنها تعمدت إظهار سلوكا جديا لتحقيق الإنجاز المطلوب.

والتبدّل الثاني في سلوك جونسون أن علاقتها أكثر دفئاً مع السفير الفرنسي بعد مرحلة متباعدة، لدرجة أن احدهم أطلق عليهما تسمية «الثنائي الغربي». وربما لذلك غابت «السهام» المبطّنة التي كان السفير القطري يعمل على إطلاقها باتجاه نظيره الفرنسي. فهو فضّلَ الوقوف جانباً والمراقبة طالما أن شيئاً ما قد تبدّل. أمّا السفير السعودي الذي غاب عن لقاء فرنجية، فهو آثرَ أن تكون مشاركته في اللقاءات في حدها الأدنى من التفاعل، ربما لكونه يُحاذر حصول تفسيرات وتأويلات في غير محلها للموقف السعودي الأساسي في الإستحقاق الرئاسي. مع الإشارة هنا الى «النشوة» التي اعترَت جبران باسيل بسبب مشاركة البخاري الخماسية في زيارته له. وهو دفعَ بأحد السفراء المعنيين الى الابتسام بشيء من الخبث حين كان يقرأ ما سَرّبه باسيل عن اللقاء في إحدى الصحف: «قد يتوَهّم أن المسافة عادت لتقترب من لحظة تكريسه كمرشح رئاسي وحيد».

والإشارة الثالثة اللافتة والمعبّرة هو ما وصل الى بيروت عن نية رئيس الوزراء القطري القيام بزيارة الى بيروت على رأس وفد يضمّ وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد بن عبد العزيز الخليفي. لكنّ السفير القطري في بيروت نصحَ بالتمهّل قليلاً بانتظار ظهور نتائج التحركات الحاصلة أو على الأقل بوادر لها، قبل تحديد زيارة على هذا المستوى. فالواضح أنّ الانتقال من مرحلة مهام أبو فهد الى هذا المستوى الرفيع يعني بأنّ ثمة مستجداً كبيراً يجري التحضير له على الساحة اللبنانية. وقطر صاحبة العلاقة المميزة مع الأميركيين والمعنية باستثمارات في لبنان، لم تخف أبداً ميلها للعب دور في لبنان. وانطلاقاً من ذلك فهي تبدو مرشحة لتولّي دور إعادة إعمار الجنوب عندما تحطّ الحرب أوزارها، وأيضاً المساعدة في حل الأزمة الرئاسية ولو أنه بات ثابتاً أنّ عقد مؤتمر الدوحة الثاني ليس مطروحاً أو وارداً.

ووفق كل ما سبق، لا بد من الإشارة الى توافق «الثنائي الغربي» أي باريس وواشنطن على الخطورة التي أصبحت تحيط بلبنان وهو ما ظهرَ مع تداعيات حادثة باسكال سليمان. فوفق تقديرات «الثنائي الغربي» فإنّ الأمور كادت ان تذهب باتجاهات كارثية وبدفعٍ داخلي مقصود من دون تقدير العواقب. فحَشر الجيش في زاوية المزايدات الداخلية سيؤدي الى زيادة مستوى المخاطر القائمة في الجنوب، وأيضا الى دفع الأمور باتجاه الدم في الشارع، ما سيجعل من السوريين طرفاً يستخدم في اقتتال داخلي بعناوين طائفية على غرار ما حصل مع الفلسطينيين في 1975.

وهذا ما كشف الحساسية الفائقة والخطيرة، والتي استوجَبت التحرّك سريعاً لمعالجة الوضع. وعلى أمل ألا تظهر مفاجآت غير محسوبة.