يبقى الثالث عشر من نيسان، تاريخاً ماثلاً في الذاكرة اللّبنانيّة. البعض يقول، قد انتهت الحرب الأهليّة التي اندلعت في ذاك التاريخ من العام خمسة وسبعين، والبعض الآخر يقول توقَّفت ولم تنته. كذلك، ثمَّة من يقول إنَّها كانت حرب الآخرين على أرضنا، وآخرون يقولون إنَّها كانت نتيجة طبيعية لغطرسة محليّة واختلال جوهري في ميزان التمثيل الشعبي.
وفي التناقضات أيضاً، أحزاب تحتفظ بمنطقّ تلك المرحلة. وأحزاب أخرى خرجت من تلك الحقبة ولن تعود. نقاشات عديدة، حول التعاطي مع ذاكرة الحرب الأهلية. هل نُعيد طرح سرديّات الحرب الأهلية ومواقف الأطراف لنناقشها ونطوي صفحتها؟ أم هل نتكتّم؟ عدّة أسئلة مشروعة وتطرح. ولربّما أفضل ردّ على التساؤلات حول الحرب الأهلية وجدوى طرح سردياتها، هو كلام وليد جنبلاط، في الذكرى الأربعين لاستشهاد المعلّم، يوم قال "كل التضحيات تبقى صغيرة أمام الدماء أو القتال". كذلك حال كلامه خلال زيارة البطريرك الراعي للمختارة في أيلول 2023، حينما قال يوم غصّت دارة المختارة بمشهد أكَّد على المصالحة، "في أدبياتنا الشهداء، كل الشهداء، هم شهداء الوطن دون تمييز لأي جهة كانت".
مواقف مهمّة بعبر مُلهمة، يُطلقها وليد جنبلاط عند كل استحقاق. رسائل مهمّة يرسلها للشّباب على وجه الخصوص. في زمن، كثر فيه التشويش وراج فيه منطق "الحنين للحرب"، أو استحسان الانتماءات الضيّقة. فيما كانت الوطنية وانتشال لبنان من صيغة "ملجأ الطوائف" إلى صيغة الوطن في صلب النضال الحزبي. ومن هنا أتت الجامعة اللبنانية، الصرح الوطني التربوي الذي كان كمال جنبلاط أوّل ما طالب بتأسيسه عام 1948 على هامش مؤتمر الأونيسكو الذي عُقد في آواخر ذلك العام.
أراد كمال جنبلاط، أن تتوافر للبنانيين مؤسسة تعليمية وطنية، غير تابعة لإرساليات خارجية، لكل منها مسار وأجندة. جامعة تلعب دوراً في "التقدّمية" الفكرية السياسية والمدنية. فكانت الجامعة اللّبنانيّة التي أتت بعد نضال طويل وحركة مطلبية شعبية واسعة كانت أولى ثمارها إنشاء "دار المعلمين العالي" في تشرين الأول 1951، بعد وقوف كمال جنبلاط بوجه سلطة كانت أكثر المتآمرين على تأسيس جامعة وطنية، مُقدّماً نضالا توَّج تضحيات متظاهرين هتفوا "لا استقلال حقيقي من دون تعليم وطني جامعي"، انتقلوا من الجامعة اليسوعية إلى ساحة الشهداء، قوبلوا برصاص السلطة، فسقط فرج الله حنين في 13 حزيران من ذاك العام.
أسّس كمال جنبلاط، جامعة وطنية، منها إنطلق النضال الوطني وفيها تكوَّن الوعي السياسي. فجال العمل السياسي دفاعاً عن لبنان وخياراته من الجامعة اللّبنانية إلى الجامعات الخاصة. حقٌّ شبابي كرّسه المعلم. لم يأت دون تضحيات، إنَّما الطلاب ما تراجعوا وما بدّلوا، وتضحيات الرفاق الشهيد حسان أبو اسماعيل، ومصطفى نصرالله الذي عاش حياته مشلولا تشهد!
كانت الجامعة الوطنية المكان الذي يخرج فيه الشباب إلى رحاب الوطن والوطنية. عكس ما هي عليه اليوم، حيث باتت صرحاً تتعزّز فيه الطائفية وتُمجَّد فيه الانقسامات، لا بل تُمأسس.
ليست هذه الجامعة التي يريدها التقدمي الاشتراكي. إلا أنَّ قوى الظلام كانت أقوى صراحة. في العام 1997، صدر قرار حمل رقم 42، خلال فترة رئاسة أسعد دياب للجامعة الوطنية، تحوَّلت بموجبه صلاحية التفرّغ في الجامعة من الإدارة إلى مجلس الوزراء، فانتهكت إستقلالية الجامعة وأصبحت قراراتها الأكاديمية وغير الأكاديمية مربوطة بمجلس الوزراء، بالتالي بالسياسة. وأمست على شاكلة مجالس الوزراء، رغم أنَّ تاريخ الجامعة كان قائماً على مواجهة مجلس الوزراء ومراقبته، والوقوف بوجه قراراته.
ليست هذه الجامعة اللبنانية. ليست هذه جامعة كمال جنبلاط وفرج الله حنين وووليد جنبلاط وأنور الفطايري وصلاح أبو الحسن. ليست هذه التي ترضي التقدمي الاشتراكي، والأخير لن يتراجع عن خوض معركتها، وإن كان للباطل جولات.