في أيار 2023 صدرت معلومات وأخبار تفيد بأن مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستضع لبنان على قائمتها «الرمادية» للدول الخاضعة لرقابة خاصة بسبب ممارسات غير مرضية متعلّقة بأنشطة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفقاً لتقييم أوّلي كانت أجرته المجموعة حول الاقتصاد اللبناني القائم على المعاملات المالية النقدية التي تساهم بشكل متزايد بإخفاء التدفّقات المالية غير المشروعة.
ولكنّ مجموعة العمل الدولي أصدرت تقريراً في كانون الأول الماضي، أبقت فيه على تصنيف لبنان عند «قيد المراجعة» مسلّطة الضوء على مخاطر تبييض الأموال التي تحيط بالنظام المالي اللبناني، والتي يمكن أن تؤدي الى إدراج البلاد على «اللائحة الرمادية» في أيار أو حزيران، موعد إعادة تقييم التصنيف، علماً أن لبنان حصل على درجة «ملتزم» أو «ملتزم إلى حد كبير» في 34 توصية من أصل 40 توصية للمجموعة، بينما لحظ التقرير وجوب إجراء تحسينات في التوصيات الست الباقية، والتي حصل فيها لبنان على درجة «ملتزم جزئياً»، ما يتطلّب بعضَ التعديلات في القوانين والتشريعات.
لا تطور إيجابي
وبما أنه منذ صدور تقرير المجموعة في نهاية العام الماضي ولغاية اليوم، لم يحصل أي تطور إيجابي مرتبط بالإصلاحات والقوانين المطلوبة، خصوصاً على صعيد الشبهات التي أشار إليها التقرير والمتعلّقة بعمليات تدور خارج المنظومة المصرفية والقطاع المالي الشرعي، وبما أن الاقتصاد الأسود، المحرّك الرئيس للعمليات المالية غير المشروعة، مستمرّ بالنمو والازدهار، فإن المؤشرات لا توحي بأن تصنيف لبنان متّجه نحو التحسّن بل إن الكفّة ترجح لخفض تصنيفه وإدراجه ربما على اللائحة الرمادية، وهو الموضوع الذي كان محور لقاء وفد وزارة الخزانة الأميركية مع بعض النواب اللبنانيين، الأسبوع الماضي. حيث حذّر الوفد من إمكانية وضع لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي ومن انعكاس هذا التصنيف على التعاملات المالية والنظام المصرفي، علماً أن الوفد شدّد على أن هذا التصنيف لا يعني قطع العلاقات المالية مع لبنان بل قد يكون مرحليّاً الى حين تنفيذ الإصلاحات المطلوبة على صعيد القطاع المصرفي، على غرار ما هو قائم في دول عدّة حالياً، مع الإشارة أيضاً الى أن خفض تصنيف لبنان وصولاً الى إدراجه على اللائحة السوداء، لن يصبّ سوى في مصلحة الاقتصاد النقدي ونموه أكثر، وبالتالي سيسهّل أكثر المعاملات المالية غير المشروعة، وهو الأمر الذي لا تحبّذه السلطات الأميركية وتحثّ لبنان على تجنّبه، مطالبة بتشديد الرقابة أكثر على مكاتب الصرافة وعلى شركات تحويل الأموال التي تؤدّي دور المصارف منذ اندلاع الأزمة المالية في البلاد.
ماذا يعني التصنيف؟
ماذا يعني تصنيف لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي؟ وما هي الأسباب التي قد تؤدي الى إدراج لبنان على تلك اللائحة، وما انعكاسات ذلك على القطاع المصرفي والاقتصاد؟
تضمّ القائمة الرمادية الدول الخاضعة للمتابعة المتزايدة وهي الدول التي تعمل مع مجموعة العمل المالي لمعالجة أوجه القصور في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلّح، حيث تتعهّد هذه الدول باتّباع خطة العمل المحدّدة للوفاء بمعالجة أوجه القصور لديها. تضمّ اللائحة الرمادية حالياً: بلغاريا، بوركينا فاسو، كاميرون، كرواتيا، كونغو، هايتي، جاميكا، كينيا، مالي، مومبيك، نميبيا، نيجيريا، فيليبين، سينيغال، جنوب أفريقيا، جنوب السودان، سوريا، تانزانيا، تركيا، فيتنام، واليمن.
حكيم: الرمادي مثل الأسود
في هذا الإطار، اعتبر الوزير السابق والمصرفيّ آلان حكيم أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية هو بمثابة وضعه على اللائحة السوداء، «وهو الأمر الذي سيغلق «مَجْرَيْي الهواء» الوحيدين اللذين ما زالا متوفرين للبلاد وهما تحويلات المغتربين البالغة حوالى 7 مليارات دولار سنوياً، والإنفاق السياحي في المواسم البالغ حوالي 10 مليارات دولار سنوياً». مؤكداً لـ»نداء الوطن» أن تصنيف لبنان على اللائحة السوداء سيخنق النظام المصرفي والاقتصاد بكافة قطاعاته وسيكون بالإضافة الى الحرب التي جرّ «حزب الله» لبنان إليها، بمثابة الضربة القاضية للبلاد!
ما الأسباب؟
وشرح حكيم أن الأسباب التي قد تدفع مجموعة العمل المالي لإدراج لبنان على اللائحة الرمادية، غير مرتبطة بالتزام القطاع المصرفي بالمعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، «علماً أن العمليات التي بات يقوم بها بسيطة وضئيلة لدرجة أن وحدات الالتزام في المصارف لا تجد عملاً تقوم به!» مشدداً على أن خفض التصنيف في حال حصوله، سيكون ناتجاً على الاقتصاد النقدي المتنامي والمستخدم على الصعيدين التجاري والاستهلاكي، بالإضافة الى عمليات تبييض الأموال التي تزدهر بسرعة فائقة، والاقتصاد الأسود الذي يمثل، وفقاً له، 60% من حجم الاقتصاد الإجمالي.
العلاقة مع البنوك المراسلة
وأوضح أن الانعكاس الأول لإدراج لبنان على اللائحة الرمادية، سيكون على علاقة المصارف مع البنوك المراسلة وعلى تدفّق التحويلات من الخارج، حيث ستصبح متشددة بدرجة كبرى وستكون هناك صعوبة كبيرة لإتمام تلك التحويلات عبر القنوات الرسمية، ما سيخفّض حجمها بشكل ملحوظ.
كما أشار حكيم الى أن القطاع المصرفي سيكون عرضة لمعايير التزام متشددة أكثر، وستتأثر سمعة لبنان المالية بشكل سلبي كبير، ما سينعكس مزيداً من التدهور في صورته على الصعيد التبادل التجاري وعلى صعيد السياحة.
وختم حكيم مؤكداً أن الاقتصاد الأسود سينمو بنسبة كبرى في حال إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، لتزدهر معه عمليات تبييض الأموال خصوصاً أن الموازنة المقرّة حديثاً حفّزت القطاعات للتحوّل نحو الاقتصاد غير الرسمي، بسبب الضرائب الكبيرة التي طالت المؤسسات الرسمية.
سرّوع: الإقتصاد الأسود
من جهته، اعتبر الخبير المصرفي جو سرّوع أن الأسباب التي قد تؤدي الى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية هي نفسها التي كانت قائمة سابقاً، وهي الاقتصاد النقدي والاقتصاد الأسود القائم على سوق الصرافة وشركات التحويل الرسمية وغير الرسمية، والذي يتخطّى حجمه 50% من الاقتصاد الشرعي، بالإضافة الى الأموال النقدية التي يتمّ نقلها من والى لبنان عبر قنوات التهريب.
وأشار سرّوع الى أن أي ضغط على لبنان من خلال إدراجه على اللائحة الرمادية لن يكون مرتبطاً بالقطاع المصرفي، لأنه «لا يوجد أساساً قطاع مصرفي لكي تتم عبره عمليات تبييض الأموال، وبالتالي تصنيف لبنان على تلك اللائحة «لا يقدم ولا يؤخر» على نظام غير موجود أو على عمل المصارف الحالي الذي يقتصر على بعض الاعتمادات المستندية البسيطة والتحويلات الضئيلة.
لا تتعلّق بالمصارف؟؟
وشدّد على أن نسبة التزام المصارف بمعايير مكافحة تبييض الأموال لطالما كانت من الأفضل بين دول المنطقة، والمشكلة اليوم لا تتعلّق بالتزام المصارف بل بعدم إمكانية ضبط ومراقبة وتتبع حركة الأموال التي تدخل وتخرج عبر القنوات المالية الأخرى مثل الصرافين وشركات تحويل الأموال وشركات شحن الأموال. معتبراً أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية قد يأتي كوسيلة ضغط على البنك المركزي للقيام بعمل جدّي في اتّجاه الاقتصاد النقدي «المنظّم وغير المنتظم والمحميّ»، ولضبط التعاملات المالية من خارج النظام المصرفي خصوصاً سوق التحويلات المالية الواردة الى لبنان والتي يصعب التدقيق بها وتتبّعها.
وفي الختام، اعتبر سرّوع انه من المنطقي أكاديمياً ومهنياً إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي لانه لم يعد بالإمكان التستّر على الفوضى العارمة في الاقتصاد النقدي.
نقاط الضعف كثيرة... وكثيرة جداً
من نقاط الضعف التي أشار لها تقرير مجموعة العمل المالي حول لبنان الصادر في كانون الأول الماضي:
- تبيّن وجود بعض الإشكاليات في منطقية فهم الدولة لمخاطر قطاع تجار المعادن النفيسة والأحجار الكريمة مع خصائصها كملاذ آمن للادخار والاستثمار وقت الأزمات، مع إشارة الى ضرورة تحديث الدولة لتقييمها لمخاطر هذا القطاع.
- لا تتفق تحقيقات غسل الأموال التي تتابعها السلطات اللبنانية الى حدّ ما مع التهديدات والمخاطر التي تم تحديدها في التقييم الوطني للمخاطر في العام 2019. كما أن الملاحقات القضائية ليست متّسقة بشكل وثيق مع التهديدات وهيكل المخاطر، لا سيما في ما يتعلق بجرائم التهريب الجمركي والتهرب الضريبي وجرائم الإتجار غير المشروع في المخدرات وجرائم الإتجار بالبشر.
- لا تتوفر للبنان سياسة واضحة لتحديد عائدات الجريمة وتجميدها ومصادرتها على أساس منتظم. حيث لم تظهر السلطات المختصة سعيها الى مصادرة عائدات الجريمة كهدف من أهداف السياسة المتبعة أو كجزء من نظام العدالة الجنائية لديها إذ لم تتمكن من تحويل التدابير التحفظية المتخذة بخصوص التجميد والحجز الى مصادرة نهائية في غسل الأموال إلا في حالة واحدة على الرغم من وجود إطار قانوني جيّد. كما لا توجد سياسة أو إجراءات واضحة لتحديد الأولويات في استرداد الأصول المحتفظ بها أو المنقولة الى ولايات قضائية أخرى بالنظر للمخاطر ذات العلاقة حيث اقتصرت حالات المصادرة في لبنان بشكل حصري على الجرائم الأصلية المحلية.
- ينبغي أن تتضمّن عملية التقييم الوطني للمخاطر في لبنان تقييماً محدثاً وأكثر شمولاً لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب الناشئة عن القطاع المالي غير المنظم. ينبغي على لبنان إعطاء الأولوية لتنفيذ الأجزاء ذات الصلة من خطة عمل مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في هذا المجال. بما في ذلك خطط الحدّ من نظام الحوالة غير الرسمي.
- ينبغي على لبنان وضع سياسات وطنية واضحة لتمكين كافة السلطات المختصة المعنية وعلى وجه التحديد المديرية العامة للجمارك والمديرية العامة للضرائب العمل على تحسين مهاراتها وخبراتها التي تتيح لها استخدام المعلومات المالية الاستخبارية بشكل استباقي ومنتظم لتطوير الأدلة في التحقيقات في قضايا غسل الأموال وتعقب المتحصلات الإجرامية التي تساهم في تحديد أولويات التحقيقات والملاحقات من قبل السلطات القضائية المختصة في غسل الأموال.