المنارة… عابرون فوق أحلامهم على دروب الذاكرة

18 آذار 2024 15:34:34 - آخر تحديث: 18 آذار 2024 15:36:16

عندما يغدو المكان ادراكاً حسياً يختزن الوعي، فإنه يلجم الزمان من التفلت في طيات النسيان، ويعيد ترتيب البعد المجرد الموجود في قوالب الذكريات المتقلبة على نبض البقاء، لا ليبقى “المحل المحدد الذي يشغله الجسم“ كما اوعز ارسطو الى مريديه ولا ”هو حاو للمتمكن، مفارق له عند الحركة ومساو له ولا يتأتى ان يوجد جسمان في مكان واحد”  كما اراد ابن سينا، الا انه الكائن العالق بين الإدراكيين الحسي والذهني.

فالمكان هو العبور الى اختزان الوعي. وفي بيروت كل دروب الذاكرة تؤدي اليه، لا ادري ما ينتاب رواد كورنيش المنارة من شعور دفين او ظاهر لمن يكرر الجري فوق خطرات تتسع فيها حدقات الخيال الى ابعد من سنوات العمر وتكبر فيها الاعين وتضيق وتتسع، هؤلاء العابرون فوق احلامهم السرمدية والخيبات الابدية، المتسكعون على ابواب الحب او الخارجون من نوافذ الفشل والخسران، الماسكون على احكام السياسة، الصامتون عن الكلام المباح، كل يحمل دفائنه و كتب حظه المرسوم.

لماذ تكون النظرات اكثر ميلا الى الخلف ولا تستقر في التلفت الا لتفحص المار والعابر انى كان الشخص، افقيا وعموديا وذات اليمن وذات الشمال انهم غرباء بين غرباء، تجمعهم احاديث مشتركة مغزولة على نول الفضفضة من دون ان يُسرّ واحد للاخر بكلام هل هو تلصص مريب او اختلاس نظرات؟ او ضربة عين او نظرة بلا قيود؟ لماذا يبرز المرء مكوناته هنا؟ لماذا يحضر الى هذه البقعة يراود البحر عن افكاره يهمس له وحده ويكشف عن مخباءاته؟ قد يشكو و يتذمر قد يبتسم و يفرح ويحزن، غالبا تؤلمه الحياة تغدره الاقدار لماذا يجري الواحد منا على غير عادته ما سر الاسرار هناك، والبحر هو لغز وعز وذل وبذل وسحر وسجن. المنارة هذه طريق الاعتراف، بلا كراس، بين الذات ونفسها بين الشخص وحاله.

لماذا يفلت الرجل نظراته المكبوتة على النساء العابرات بين العابرين؟ وامرأته وصاحبته وبنوه بقربه ،تتوخى الواحدة السير بخطواتها على خطاه ولا تسابقه غالبا بتمرده في التمعن والتفرس وتفريغ ما يعتمل في نفسه، وقد تفعل اكثر او تزيد.

الكل ياتي اليها (المنارة) واليه (الكورنيش)، ليفصح عن توحده المقيم و كبته الجماعي كيف تكون العين متحررة من النظر، من الرؤية، وتنعتق النفس من اسرها.

الشاب كما الشابة يبحران الى المستقبل ويركضان كاعمارهما الى الامام، ويستعرضان مكامن قوتهما ونضارة عطاءاتهما وتحررهما من روتين الامكانة المغلقة على الافكار، الماسكة على الحدس، الرابطة على التمرد من الضوابط غب المكان والزمان. الا في المنارة حيث يتوه الواحد من ذاته، و يتبادل الصغير والكبير، والهرم والفتى والشاب والشابة اعمارهم ويتقلدون ادوارهم على مسرح الحياة ويتبادلونها.

حيث يجهد الكهل سعيه وخياله على استعادة مفاتن قدرته السابقة ويستل ماضيه للحظات ليثبت انه كان، وان الذي اخذه غيره من جيل صاعد كان له، هذه عملية لاستعادة انفاس الماضي يراه سحيقا وعميقا بين خطوات الشاب المتسارعة، ويقد نظراته الغائرة على قميص الشابة من خلف، ويسرّها للبحر الابيض والمتلون، واكثرها حسرات وآهات، اما المراة التى تزوجت وانجبت فوق اعتاب الزمن فلها خاطرها يجول بين العابرين لعل الذي مضى يعود او ان غائبا اتت به الصدف او ضل الدروب. وقد تكون عابرة، رجاؤها نظرات الحسرة التى تكاد تسحبها سحبا من فتاة صبية تبرع في طي جمالها على حال حبيبها او ترمي بجمالها المترع على جمال صديقتها ويلعبن ويلعبون على سعة سنواتهم الفارغة من حزن الايام او يكاد.

يا الهي ماذا سيقول البحر وشاطئه المغمسان والمترعان بحكايا الناس وثرثراتهم واحاديث الصباح والمساء؟ ماذا سيعترفان لو اتيح لهما الكلام، كم من ابرياء سرقتهم دموعهم على مخدات الصدق؟ وكم من ابالسة اشتروا بالنصب وهم يعتاشون على غباء الاخرين وآلامهم؟

كم من رجال هنا. قوامون على النساء؟ وكم من نساء غالبات بالرجال على الرجال؟ وكم من سقيفة اقيمت هنا؟ وكم من اسماء انبياء ذكرت هناك؟ كم من صلب وهجر؟ وكم من يقظة وحر؟ وكم من برد وشتاء؟

كيف يناقش المؤمن المرتد؟ وكيف اناقش انا امسي الذي كان؟ وكيف ناقشت نفسي يوما ما ساكون وقد لا اكون؟

(*) المدير العام لوزارة الاعلام