أن تنكشف قضية شحنة أرُزّ مسرطنة وُزِّعَت في الأسواق، أو باخرة قمح متعفِّن، أو مواد غذائية منتهية الصلاحية أو مداهمة مطاعم وملاحم تبيع منتجات غير صالحة للأكل... وغير ذلك من التجاوزات، بات سمة شبه يومية في لبنان، وإن تأخَّرَ الإعلان عن قضية هنا أو هناك.
والحال أن هذه التجاوزات، سابقة للأزمة الاقتصادية وغير مرتبطة بها بشكل مباشر، لأنها قضية مستمرة وجزء من حالة الإنكار الذي تمارسه السلطة السياسية تجاه كل ما يحصل. بل تسمح السلطة لمؤسساتها وإداراتها ووزاراتها الرسمية، بإصدار شهادات وبيانات وتوضيحات تساهم في التعمية عن الفساد، وتالياً بالإضرار بمصالح المواطنين وصحّتهم وأموالهم. ومن ضمن ذلك إصدار شهادات بصلاحية منتجات غير صالحة للاستهلاك، وتطمينات وزارة الصحة حيال مادة ضارّة.
انعدام الأمن الغذائي
في بلد يستورد نحو 80 بالمئة من احتياجاته الغذائية بلا رقابة حقيقية، ليس مستَغرباً أن تحذّر فيه لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – الإسكوا، من "أزمة انعدام الأمن الغذائي"، ليس فقط على مستوى عدم قدرة بعض اللبنانيين الحصول على الغذاء، بل أيضاً على مستوى جودة الغذاء الذين يحصلون عليه، وقدرته على تلبية احتياجاتهم الغذائية. وهي مخاطر حذّرت منها الإسكوا على الأقل منذ العام 2016، حين رأت في تقرير لها أن على لبنان "التعجيل بصياغة استراتيجية وطنية متكاملة للأمن الغذائي لمواجهة أزمة انعدام الأمن الغذائي المتفاقمة في البلاد".
السلطة السياسية لم تعجِّل بصياغة شيء. بل على العكس، "عرقلت إقرار قوانين وعرقلت تطبيق القوانين الأخرى التي لم تجد مهرباً من إقرارها، ومنها قانون سلامة الغذاء وقانون حماية المستهلك"، وفق ما يؤكّده رئيس جمعية حماية المستهلك، الطبيب زهير برّو في حديث لـ"المدن".
ويزداد الخطر على الأمن الغذائي في لبنان مع اضطرار شريحة واسعة من اللبنانيين إلى تغيير عاداتهم الاستهلاكية عبر الانتقال من منتجات تُعتَبَر أكثر أماناً نحو منتجات اكثر خطورة، وذلك بفعل فقدانهم القدرة على شراء المنتجات الأفضل، إذ بانعدام القدرة الشرائية للرواتب، بات الخيار الأنسب هو البحث عن المنتجات الأرخص سعراً والتنازل عن الجودة.
وهذا التوجّه، كونه ظاهرة عامة، يدفع المنظمات الدولية إلى رفع تقديراتها حول كلفة تأمين الاحتياجات الغذائية الصحيحة لمواطني البلدان التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، ومنها لبنان. وبحسب تقرير آفاق الأمن الغذائي العالمي، الصادر عن البنك الدولي في تشرين الأول 2023، ومن أجل توفير شبكة أمان اجتماعي أساسية تغطي 25 بالمئة من الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية لمن يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، يحتاج العالم سنوياً إلى نحو 90 مليار دولار من الآن وحتى عام 2030. ومع ارتفاع التضخم وانخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأولية، يمكن أن ترتفع هذه الاحتياجات إلى نحو 120 مليار دولار.
أما مع معالجة سوء التغذية بين النساء والأطفال، والتي تتجاوز كلفتها 11 مليار دولار سنوياً، ومع الحاجة لتحويل النظام الغذائي العالمي والذي يتطلب ما بين 300 و400 مليار دولار سنوياً. يصل إجمالي النفقات المطلوبة إلى نحو 500 مليار دولار سنوياً، ورغم ضخامة الرقم، إلا أنه يمثل نحو 0.5 بالمئة فقط من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
مواد غذائية ولحوم
في تطمين لوزارة الصحة تردّ فيه على "فيديوهات تبثّ المعلومات غير الدقيقة حول مواضيع متعلّقة بسلامة الغذاء، وآخرها مرتبط بطهي الأرُزّ ومدة صلاحيته واحتوائه على مواد سامة"، أكّدت الوزارة في بيان أنه "في المعلومات المتداولة حول السموم الفطرية وبخاصة مادة الأفلاتوكسينAflatoxin وتكاثرها في الأرز المطهو، تطمئن وزارة الصحة العامة المواطنين أن تكاثر هذه المادة لا يتم إلّا عبر الفطريات، وبما أن الطهي يقتل الفطريات، فإن تكاثر هذه السموم معلومة غير دقيقة. وإذا ما كان هناك من متبقيات فطرية نتيجة مقاومة بعضها للحرارة، تحتاج هذه المتبقيات إلى حرارة تتخطى الـ20 درجة مئوية لتتكاثر من جديد وهنا ستبدو علامات العفن ظاهرة بالطبع على الأرز. أما فيما يخص الأفلاتوكسين، فهذه السموم تحتاج الى حرارة تتخطى الـ30 درجة مئوية لتفرز بواسطة الفطريات وهو أمر غير قابل للحصول داخل البراد".
من ناحيته، ينفي برّو هذه التطمينات ويؤكّد أن "هذه الفطريات في الطعام تؤسّس للسرطان، وبالتالي يمكن استهلاك الأطعمة التي يثبت أنها تحتوي على الأفلاتوكسين الذي يبقى في الطعام حتى بعد طهيه، لأن هذه المادة تفرزها الفطريات، وبالتالي إن ماتت الفطريات، فإن المادة تكون قد لوَّثَت الطعام".
ويدعو برّو المواطنين إلى "رمي أي منتج غذائي لا يُطمأنُّ إلى رائحته وشكله". أما الركون إلى تاريخ الصلاحية، فهو أمر غير محسوم لأن "تواريخ الصلاحية يتم تزويرها ووضع تواريخ جديدة على مواد منتهية الصلاحية. ولذلك يجب الانتباه إلى الرائحة والشكل".
وبالنسبة إلى برّو، على المستهلك أن لا يكتفي برمي المنتجات، بل "يجب أن يفضح صاحبها عبر التوجّه إلى المحل وتبيان المنتَج واستعادة ماله والتأكيد أمام الزبائن والرأي العام على ان هذا المنتَج فاسد".
ويأسف رئيس جمعية المستهلك أن لا يكون هناك جهات تمثّل الدولة يمكن للمواطن اللجوء إليها، لأن "الجهات الرسمية والقضاء لا يقومون بواجباتهم في هذا الملف. ومع ذلك، على المستهلك صاحب الحق، أن يشتكي بشكل رسمي ليثبت حقّه القانوني وإن بصورة شكلية، ويمكنه اللجوء إلى جمعية المستهلك التي تتابع الملف".
وإن كان انعدام الأمن الغذائي حالة عامة، فإن التلاعب بالمواد الغذائية يكثر في المناسبات والأعياد، مثل شهر رمضان الذي يرتفع فيه الإقبال على شراء المواد الغذائية، فيكون مناسبة لبيع المواد الفاسدة أو بأحسن الأحوال التلاعب في نوعية المنتجات، على غرار بيع لحوم هندية وبرازيلية ذات سعر أقل، على أنها لحوم أوروبية ذات سعر أعلى. وهو ما حذّرت منه أمين سرّ نقابة القصابين وتجار المواشي الحيّة، ماجد عيد، الذي أكّد في بيان تلاعب بعض أصحاب الملاحم بنوعية اللحوم "ومزج اللحم الهندي والبرازيلي بلحم أوروبي طازج وبيعه على أنه أوروبي خالص، بسعر يتراوح بين 12 و13 دولار للكيلو، في حين أن كيلو اللحم الأرخص يباع بـ9 و10 دولارات".
مراقبة هذا الغش يحتاج إلى إجراءات رقابية رسمية. ويلفت برّو النظر في هذا الملف، إلى طرح قدّمته جمعية المستهلك منذ العام 2012، ويقوم على "إصدار شهادات بيع للملاحم تحدّد هوية اللحم المباع، فتكون الشهادة صالحة لبيع اللحم الطازج، أو شهادة أخرى لبيع اللحم المجلَّد أو المبرَّد، وبهذه الحالة لا يمكن مزج النوعين معاً، إلا بصورة مكشوفة".
ترتبط عملية حماية الأمن الغذائي بتوفير الاحتياجات الغذائية المطلوبة وبكلفة مقبولة لكنها لا تراعي السعر على حساب الجودة والقيمة الغذائية للمنتجات. وهذا أمر لا يمكن ضمانه في ظل الفوضى المستمرة في البلاد.