سِباق لغوي يستهدف اللغة العربية في سوريا
08 آذار 2024
05:34
Article Content
أرخت الأحداث القاسية التي حصلت في سوريا بظلالها على الُّلغة العربية، وبدت مشهدية النُطق مختلفة تماماً عما كانت عليه في أيام غابرة. وسوريا اشتهرت على أنها قلب العروبة النابض، والَّلهجة العربية السورية عُرفت بأنها من الأكثر فصاحةً، ومُعظم مَن كان يرغب في تعلُّم العربية من الدول الأجنبية؛ كان يقصد سوريا ومدارسها بالدرجة الأولى، كما لعِب أساتذة اللغة السوريون دوراً متقدماً في تعزيز مكانة العربية في المغرب العربي عامةً، وفي الجزائر خاصةً، بعد مرحلة الاستعمار القاسية، والتي هدفت إلى تقليص استخدام اللغة العربية واستبدال الفرنسية بها على وجه الخصوص.
منذ اندلاع الأحداث الدامية في سوريا في عام 2011؛ تعرَّض القطاع التعليمي لصعوبات كبيرة، وأصاب المدارس والجامعات الكثير من شظايا الحرب، وتكسَّرت بعض نوافذ الحماية التي كانت تمنع تسرُّب الشوائب إلى داخل غرفها، وشُرِّعت المنافسات على مصراعيها، لا سيما بعد عام 2015، واستفاق بعض الأطراف الداخليين وعدد من الجهات الخارجية على "التبشير اللغوي" وفقاً لمنهجية تُذكِّر بالدعوات التبشيرية التي انتشرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لأن التسابق الحاصل، لا يهدف إلى زيادة منسوب المعرفة والاستزادة من تحصيل العلوم، بل لاستمالة شرائح من السكان إلى ثقافات بعضها غريب عن الرؤى الوطنية والعربية المتجذِّرة في صفوف الشعب السوري.
هناك تسابق واضح بين القوى التي تتمتع بنفوذ سياسي وعسكري في سوريا على إدخال تعلُّم اللغات الخاصة بها في المدارس والجامعات. وقد نجحت هذه الأطراف في الحصول على موافقة عدد من المؤسسات التعليمية على اعتماد اللغة الروسية أحياناً، واللغة الفارسية أحياناً أخرى في مناهج الطلاب، إضافة إلى اللغة العربية، كما أنشأت البعثات الثقافية لهذه الدول – خصوصاً الإيرانية - مدارس أو فروعاً من جامعات بلدانها في المدن السورية، لا سيما في مدينة دمشق ومحيطها، وفي حلب وحمص ومدن الساحل.
في المقابل؛ فإن تعميم اللغة التركية يسير على قدمٍ وساق في المناطق الشمالية والغربية المفتوحة مع الحدود التركية، والتي لا تخضع لسلطة الحكومة المركزية، خصوصاً بعدما فرضت بعض إدارات الأقاليم المحلية على السوريين النازحين إلى الأراضي التركية عدم استخدام اللغة العربية أو كتابة أي إعلانات بحروفها، وقد لجأ التجار والصناعيون والعاملون في الهيئات الإنسانية الدولية من السوريين إلى تعلُّم اللغة التركية لتدبير أمورهم الحياتية والعملية، كما تسابق الطلاب على دخول المدارس التي تعتمد هذه اللغة، ليتمكنوا من متابعة دراستهم في الجامعات التركية، لأن مناطق نفوذ المعارضة في قرى شمال حلب، وفي محافظة إدلب ومحيطها، تفتقد وجود جامعات قادرة على استيعاب هؤلاء الطلاب.
وبالتزامن مع هذه الوضعيات المستجدة؛ بدأت الجماعات السياسية النافذة في الشمال تغيير المناهج التعليمية الرسمية، وتبديل المواد التي تُدرّس باللغة العربية بترجمتها إلى اللغة "الكرمانجية" التي يستخدمها الأكراد. وإغفال السلطات السابقة للّغة المحلية للأكراد وعدم تعليمها لهم؛ ربما كان خطأً، ولكن هذا الخطأ لا يُبرر الرد عليه اليوم باستهداف اللغة العربية.
ويتجاوز عدد التلامذة الذين يتعلمون في مدارس "قسد" في مناطق الجزيرة والحسكة والقامشلي وعين عرب وعفرين 204 آلاف تلميذ، وبين هؤلاء أبناء مواطنين سوريين من غير الأكراد ينتمون إلى هذه المناطق. وهذه الوضعية خلقت إشكالية قانونية عند متخرّجي هذه المدارس، لأن السلطات المركزية في دمشق لا تعترف بشهاداتها، وبالتالي فإن تلامذة هذه المدارس الابتدائية والثانوية لا يمكنهم متابعة دراساتهم الجامعية داخل سوريا أو خارجها.
وبرزت وضعيات أخرى تطال اللغة العربية الأُم، منها انتشار تعليم اللغة السريانية واللغة الأرمنية في بعض المدارس الخاصة وفي دور العبادة، لا سيما في المناطق الشمالية لسوريا، ولا يقتصر تعليم هذه الُّلغات على استخدامها في التخاطب بين الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجاليات - وهذا حق لهم - بل تعدّى ذلك إلى استخدامها في المواد العلمية والبحثية التخصصية. وقد لجأت بعض الجمعيات إلى تقديم ضمانات للمتعلمين بهذه المناهج، توفِّر لهم فرص التخصص الجامعي في الخارج، لا سيما في الدول التي تعتمد على هذه اللغات.
لا نرغب بالدخول في التفاصيل والحيثيات السياسية التي تتفرَّع من هذه المُعضلة، ولي هناك مُتسع للغوص في هذا السياق الشائك، ذلك أن التشعبات والتداخلات متعددة ومتنوعة، وقد تُثير تباينات لا إجماع حولها. لكن الواضح أن أهداف الذين يعملون على نشر اللغات الأخرى غير العربية على المساحة السورية تخفي مقاربات سياسية، وتنحو باتجاه إضعاف العربية، وربما إنهاكها إلى حدود الاستغناء عنها بالكامل في مناطق اشتهرت بأنها ملاذ لهذه العربية، وبعض الأهداف قد تكون ترمي لإحداث تبدلات ثقافية واسعة في البيئة السورية بكاملها.
حسناً فعلت هيئة الأمم المتحدة في إطلاق "العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية" بين 25 نيسان (أبريل) 2022 و25 نيسان 2032، لأن للشعوب الحق بالحفاظ على لغاتها الأصلية، وهي جزء لا يتجزأ من تاريخ هذه الشعوب وتراثها الثقافي، وهذه البادرة ليست موجهة ضد العولمة الثقافية التي تهدف إلى فتح الأبواب العلمية على مصراعيها أمام التطور لاعتماد الابتكارات التقنية والذكاء الصناعي على نطاقٍ واسع، وليستفيد من هذه المُنجزات أكبر عدد ممكن من الناس. والتقارير الدولية ذات الصلة تشير إلى أن نصف لغات العالم ستنقرض قبل نهاية القرن الحالي. لكن الفرق كبير بين خطة إحياء لغات الشعوب الأصلية واستهداف اللغة العربية في عقر دارها، وربما لتحقيق مآرب سياسية صَرفة.