على وقع التصعيد الميداني الذي تشهده ساحات القتال في أوكرانيا بين القوات الروسية والجيش الأوكراني تتجه المعركة هناك نحو مآلاتٍ جديدة أكثر خطورة، وهي تنذر بتوسُّع رقعة التوتر إلى مناطق جديدة، وبنوعية اقتتال مختلفة عن السياق الذي استخدمه الفريقان خلال السنتين الماضيتين. ومن الواضح أن القارة الأوروبية بدأت تتعاطى مع ما يجري بحذرٍ شديد، وبقلقٍ كبير فيه اضطراب واضح في طريقة التعامل مع الملف الخطر.
بعد الكلام الذي نُقل عن لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقال فيه إن بلاده على استعداد لإرسال جنودها إلى جبهات القتال في أوكرانيا إذا اقتضى الأمر، ثم نُفي ذلك على لسان وزير خارجيته، جاءت التسريبات التي نشرتها قناة «آر تي» الروسية، وفيها محادثات جرت بين مسؤولين عسكريين ألمان تتناول خططاً تهدف إلى ضرب جسر القرم الذي يربط الأراضي الروسية بالجزيرة التي أعادت موسكو ضمها في عام 2014.
وقد أنكر المستشار الألماني أولاف شولتز علمه بمضمون ما جاء في التسريبات الصوتية لضباط في الجيش الألماني، ووعد بإجراء تحقيق حول الموضوع، ذلك أن بلاده ليست في وارد الدخول مباشرةً بالحرب في أوكرانيا، وبرغم أنها تدعم الحكومة الأوكرانية بما توفر لها من إمكانيات لكنها لم توافق على تزويد قوات كييف بصواريخ «توروس» المتطورة البعيدة المدى على الإطلاق.
موسكو تعاملت مع الكلام الأوروبي الجديد باهتمامٍ بالغ، وقال مسؤولون فيها إن روسيا سترد مباشرة داخل الأراضي الألمانية إذا ما قامت برلين بالمساهمة بتنفيذ الخطة التي وردت في التسجيل الصوتي حول تفجير جسر القرم بصواريخ «توروس» الألمانية المدمرة والشديدة الدقة، كما أنها ردت على الكلام الذي صدر عن الرئيس الفرنسي بقسوة، وقالت إن ذلك سيجعل من فرنسا شريكاً في الحرب على روسيا.
التراجع الفرنسي والألماني عن الاندفاعة الإعلامية التي رافقت إحياء ذكرى مرور سنتين على «الغزو الروسي لأوكرانيا» كما يصفونه، لا يعني أن وتيرة الصراع تراجعت، بل على العكس من ذلك، فإن القوات الروسية تتابع تقدمها على بعض محاور القتال في وسط الشرق الأوكراني، واستيلاؤها على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية والقرى المجاورة لها شكَّل نقلة نوعية في مسار الحرب، والردود الأوكرانية لم تنجح في إعادة التوازن إلى ميدان القتال، لا سيما بعد أن تمكنت الدفاعات الروسية من إحباط عمليات المسيرات الحربية التي كانت تستهدف مناطق داخل الأراضي الروسية، وخصوصاً جسر القرم الشهير.
يبدو واضحاً عودة الاهتمام بالقتال الجاري على الساحة الأوكرانية، بعد أن سرقت الحرب في غزة الأضواء عن هذه الساحة طوال الأشهر الخمسة الماضية من جراء فظاعة الارتكابات التي قامت بها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين. وقد أخذ هذا الاهتمام المُتجدِّد أشكالاً جديدة زادت من المتابعة الأوروبية الحثيثة لما يجري في أوكرانيا، وما يمكن أن يشكله من خطر على أمن دول الاتحاد في المستقبل، وجاءت زيارات القادة الأوروبيين إلى أوكرانيا في الأيام الماضية –لا سيما الألمان والفرنسيون والإيطاليون– لتؤكد هذا الاهتمام، وهذه الزيارات شملت مناطق متوترة عسكرياً، وكاد أن يحصل تهديد أمني لشخصيات الوفود الزائرة، كما حصل مع وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيروك في 25 فبراير/ شباط الماضي إبان وجودها في ميناء مدينة أوديسا الأوكرانية على البحر الأسود، حيث دخلت إلى الملجأ بعد التحذير من وقوع غارة في المنطقة التي كانت موجودة فيها.
من جهة أخرى، فإن تباينات أوروبية – أوروبية ظهرت على السطح حول ما يجري في أوكرانيا، وقد امتعضت بريطانيا علناً من تصريح المستشار الألماني شولتز عندما أشار إلى وجود خبراء من الجيش البريطاني يساعدون القوات الأوكرانية على تصويب الصواريخ الدقيقة الموجهة ضد القوات الروسية، وأبدى مسؤولون بريطانيون استياءهم الشديد من هذه التسريبات الشديدة الخطورة، والتي تعتبر إخلالاً بالتعهدات التي تربط بين دول حلف الأطلسي (وفق ما ذكرت صحيفة تلغراف البريطانية في 28/2/2024). ويبدو أن هناك تباينات أخرى بين دول الحلف حول تقييمها للعلاقة مع موسكو. فبينما تتراجع بعض الدول الأوروبية عن حماسها في دعم القوات الأوكرانية بحجة عدم توفر مادة البارود التي تستخدم في صناعة القذائف التي تحتاجها أوكرانيا (كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية في 3/3/2024) تلجأ دول أخرى مقرَّبة أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرسال جنود وخبراء لمساعدة حكومة كييف ميدانياً.
وكان لعودة شراء الغاز الروسي من قبل بعض الدول الأوروبية -لا سيما بواسطة شركة «توتال إنرجي» الفرنسية التي استثمرت بمبالغ طائلة في سيبيريا الروسية- دلالات واضحة على التمايُز القائم بين هذه الدول والعاصمة الأمريكية، لأن أسعار الغاز الروسي أقل تكلفة على الأسواق الأوروبية من أي مصدر آخر، خصوصاً من الغاز المسال الذي يصل من الأسواق الأمريكية البعيدة بأسعار مضاعفة، والذي يكلِّف رسوم تأمين وشحن باهظة.
إعلان الأوروبيين أنهم لن يتخلوا عن أوكرانيا لا يعني أنهم سيستمرون بالوتيرة السابقة في التعاطي معها.