تحليلات دستورية بخلفيات سياسية
29 شباط 2024
07:57
Article Content
على هامش المشكلات الوازنة التي يعاني منها لبنان، وأبرزها الفراغ في سدَّة رئاسة الجمهورية، وكون الحكومة مستقيلة قبل حصول الفراغ، فإنّها تصرِّف الأعمال الضرورية من دون أن تكون قد حصلت على ثقة مجلس النواب الذي انُتخب قبل ما يقارب السنتين.
وتعاني الدولة من وضعية شغور واسعة تطال أهم المراكز الإدارية والقضائية والمالية والعسكرية، وهي تدار بالوكالة من شخصيات غالبيتها لم تكُن مستعدة لتولّي المركز، أو أنّها غير مؤهّلة للقيام بالمهمّة المناطة بها من حيث الاختصاص، او من حيث عدم الإستعداد، ذلك أنّ التوزيع الطائفي لوظائف الفئة الأولى الذي نصّت عليه المادة 95 من الدستور، كذلك العرف الذي اعتمد توزيع المراكز على شخصيات من طوائف محدّدة - رغم أنّ المادة 95 لم تذكر ذلك - هذه الإعتبارات جعلت الحسابات الشخصية لمتولِّي هذه الوظائف تُحسب بميزان الوفاق الوطني الدقيق، لا سيما منها حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام ومراكز السلطة القضائية الأساسية.
يقول الرئيس السابق للمجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان: "إنّ أكبر الأخطاء التي ارتُكبت بعد التعديلات الدستورية التي جرت في 21/9/1990 بموجب اتفاق الطائف؛ كانت إعادة صلاحية تفسير الدستور إلى المجلس النيابي، بعد أن كانت بموجب نص وثيقة الوفاق الوطني من صلاحية المجلس الدستوري الذي أُنشئ لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين" (راجع صحيفة النهار 10/1/2022).
ومن المتعارف عليه في غالبية دول العالم وبينها فرنسا، أنّ هذه الصلاحية مناطة بالمجالس الدستورية او بالمحاكم العليا، وذلك احتراماً لمبدأ فصل السلطات، ولتوفير آلية معقولة لتسيير شؤون الدولة، لأنّ حصر التفسير بالمجلس النيابي فيه إعاقة واضحة لبعض المهام الأساسية لمؤسسات الدولة ورهنها لقرارات الأكثرية الظرفية التي يتألف منها مجلس النواب، علماً أنّ آلية التفسير في المجلس معقّدة جداً، وهي تشبه تماماً ما يحتاجه التعديل الدستوري.
التحليلات الدستورية التي تصدر احياناً عن بعض أساتذة القانون، أو عن كتَّاب وصحافيين، يغلب على معظمها الإرتجال، ولا تلتزم معايير محدّدة تتناول توضيح الصورة من كل جوانبها، وربما يكون بعض هذه التحليلات يأتي من باب الدفاع عن موقف سياسي، أو أنّها تُقدَّم غبّ الطلب لطالبيها من أصحاب المصلحة. وهذه الوضعية المرضية منتشرة في لبنان للأسف، وقد استسهل البعض تناولها من دون أن يدرك نتائجها، وصولاً الى حدّ تسخيف الميثاقية التي بُنيت عليها الدولة، واعتمدها الدستور في الفقرة "ي" من الأحكام الرئيسية. ويستعجل هؤلاء في اعتماد المقاربة التي تناسبهم، من دون الوقوف عند مقاصد النص، ولا عند رؤية الطرف الآخر في معادلة الشراكة الوطنية.
لا يوجد دستور في العالم يمكن أن يكون نشأ لعرقلة عمل الدولة، بل هدف الدساتير تنظيم عمل الدول، وضبط إيقاع العقد الاجتماعي الذي توافقت عليه المكونات المجتمعية للدولة، أي الشعب. وعندما يتضرَّع بعض ممثلي الشعب بالدستور لعرقلة مسار الدولة والحؤول دون توفير أرضية مناسبة للإنتظام العام – كما هو حاصل في لبنان بعرقلة عملية انتخاب رئيس للجمهورية – تكون أهواؤهم الشخصية أو الحزبية أو الطائفية هي التي تتحكّم بتصرفاتهم، وليس المصلحة العامة للشعب، وهؤلاء انتُخبوا للحفاظ على هذه المصلحة قبل أي شيءٍ آخر.
وإذا كان الدستور او قانون النظام الداخلي لمجلس النواب اللبناني لم يلحظ عقوبات على المتخلّفين عن القيام بواجبهم الدستوري – خصوصاً التغيُّب غير المُبرّر عن حضور الجلسات – فإنّ ذلك لا يعني أنّهم على حق في موقفهم، بل يمكن اتهامهم بالتقصير او الإخلال بالواجب او بالخيانة العظمى، لكن آلية اتهام النواب ورفع الحصانة عنهم معقّدة جداً، كذلك إحالة الرؤساء والوزراء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهذا المجلس كأنّه أنشئ لعدم محاكمة أحد.
بعض ما تناولته التحليلات حول تعيين رئيس أركان الجيش في جلسة حكومة تصريف الأعمال بتاريخ 8 شباط (فبراير) الجاري، يمكن أن يكون منطقياً إذا كان هدفه الإضاءة على المراعاة غير المناسبة التي اعتمدتها الحكومة لعدم استفزاز المتغيبين من الوزراء بسبب مقاطعتهم لجلسات الحكومة منذ شغور موقع رئاسة الجمهورية قبل 16 شهراً، أي تقصيرها في اصدار مرسومي الترقية والتعيين للواء حسان عودة، لأنّ وزير الدفاع لن يوقّع عليه انطلاقاً من موقف سياسي، وكان يمكن إعداد هذا المرسوم كما حصل مع المراسيم الأخرى التي تناولت تقديمات اجتماعية لم يحضر جلسة إقرارها وزراء معنيون مقاطعون ايضاً، والوزير مُلزم بموجب المادة 28 من المرسوم رقم 2552 تاريخ 1/8/1992 (تنظيم عمل مجلس الوزراء) بالتوقيع على المراسيم التي تُنشر بموجبها قرارات الحكومة حتى ولو كان معارضاً لها، على عكس رئيس الجمهورية الذي يحق له ردّ أي قرار صادر عن مجلس الوزراء، ويمكن لهذا الأخير أن يلغيه أو أن يُعيد التأكيد عليه، فيصبح نافذاً حكماً بعد مرور 15 يوماً، وفقاً لنص المادة 56 من الدستور.
وزير الدفاع موريس سليم يمتنع عن القيام بدوره الدستوري لأسباب سياسية، والحكومة مُلزمة بتصريف أعمال الدولة الضرورية والمُلحّة وفق ما يفرضه عليها الدستور، وهي تمثل السلطة الإجرائية بموجب المادة 65 من الدستور، والحكومة بغالبية أعضائها لها صلاحية تصنيف الموضوعات في ما إذا كانت من الأعمال الضرورية والمُلحّة أم لا، وإجراءاتها خاضعة للمراجعة أمام مجلس شورى الدولة، وهي رأت أنّ ملف تعيين رئيس أركان الجيش أمر ملح في هذا الوقت بالذات، برغم أنّ المركز شاغر منذ أكثر من عام، لأنّ قانون الدفاع لا يلحظ ملء هذا الموقع بالإنابة، ولكون رئيس الأركان هو الوحيد القادر على تولّي مهام قائد الجيش في حال غيابه، وقائد الجيش مُلزم أن يسافر لحضور المؤتمر الدولي لدعم الجيش في باريس، وهو مُلزم ايضاً بالسفر الى الدوحة لتوقيع عقد الهبة التي تقدّمها دولة قطر للجيش، والوضع المالي الصعب للدولة اللبنانية فَرَض على الجيش تلقّي هذه المساعدات للإستمرار في القيام بواجباته. وبالتالي لا يمكن للقائد السفر الى خارج البلاد والإبقاء على الجيش من دون قيادة وفقاً للأصول المرعية، وهذه الوضعية تفرض إبقاء موضوع تعيين رئيس للأركان فوق كل الإعتبارات السياسية أو الصراعات الحزبية، لأنّه واجب وطني يتعلق بالمصلحة الوطنية العليا.
الهرطقات الدستورية كما الإستنسابية في تفسير القوانين والمراسيم؛ قد تُطيح بما تبقّى من مؤسسات في الدولة، وهي تعرقل الإنتظام العام. وقد لجأت بعض القوى الى استخدام التعطيل لتحقيق أغراض طائفية أو مذهبية، ضاربةً بعرض الحائط مراعاة الوفاق الوطني، والأصول التي تهدف اليها القوانين الوضعية. وتكريس هذه المقاربات قد يؤدي الى موت كامل للدولة، وضياع المؤسسات. "فإذا افترضنا مجازاً أنّ توقيع الوزير يلغي قرار مجلس الوزراء، نكون أمام هرمية دستورية مقلوبة تلغي مبرر وجود مجلس الوزراء بالكامل".
مثل هذه التفسيرات فيها مغامرات خطيرة، وهو ما ينطبق ايضاً على بعض القرارات التي أوقفتها جزافاً في السابق وزارة المالية ووزارة العدل، في تجاوز واضح لحدّ السلطة. وإذا كان صحيحاً ما تمَّ تسريبه في وسيلة إعلامية مُحدّدة، عن أنّ وزير الدفاع سيُصدر تعميماً يعتبر فيه قرار تعيين رئيس أركان الجيش باطلاً وكأنّه لم يكُن، يكون الوضع أشدّ خطورة. فماذا لو امتنع رئيس الأركان هو الآخر عن توقيع إحالات وزير الدفاع وعدم الإلتزام بمندرجاتها؟
مهلاً أيها السادة! إدارة الدولة تحتاج إلى رجال دولة بالدرجة الأولى، وإلى تضامن بين كل المسؤولين فيها، وإلاّ نكون أمام عربة يشدّها حصان إلى الأمام وحصان إلى الخلف، كما كان يردّد المثلث الرحمة البطريرك نصر الله صفير، ووقوفها في المكان الحالي الخطر، سيعرّضها للطوفان الذي يسير بين شعاب المنطقة ووديانها، كما أنّها معرَّضة للهيب الحرائق المشتعلة المتنقلة.
قديماً قيل: قيمة المؤسسات من قيمة العاملين فيها.
إعلان