إذا فجع الشاعر الإنكليزيّ أليوت بذاك الموت الجاثم على أرصفة أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، أطلق قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب" الّتي تصدّرت الحداثة الشعريّة الغربيّة والعربيّة في القرن العشرين، وقدّمت صورة العالم في تلك الحقبة الحالكة من تاريخ البشريّة، وكشفت عن مشاعره حيال امّحاء معالم الحياة بالموت، فرأيناه شاعرًا قلقه يمتدّ قلعة إلى أقصى حدود الأدب والتاريخ.
منذ لحظة القراءة الأولى يلفت الانتباه انفصال الشاعر بوعيه عن ذلك العالم باستعماله صيغة الغائب في مطلع القصيدة: "الشتاء أدفأنا، وهو يغطّي الأرض بثلج نسّاء/ يغذّي حياة ضئيلة بدرنات يابسة...".
مئة وسنتان من السنوات تمرّ، ونحن نستشعر أنّ التاريخ أبى أن تكون هذه القصيدة "مرحلة وانتهت" وفق تعبير أليوت، فالإنسان، في صيرورة الحياة، لا يزال جالسًا فوق ركام هائل من حروب طاحنة.
وهذا مقطع من القصيدة تُشير صوره إلى عدميّة وجوديّة، وتضعنا إزاء مأساة: " يا ابن آدم/أنت لا تملك أن تقول شيئا/ لأنّك لا تعرف/ غير كومة من الصور المهشّمة/ والشجرة الميتة لا تعطي ظلًّا/ ولا الحجر اليابس ماء...".
إنّ الشقاء الإنسانيّ يتبع المسار التصاعديّ في عصر المجتمع التكنولوجي المتقدّم والساعي إلى التغيير، وإذا شكّل هذا التقدّم أهميّة كبيرة، فإنّ وجود الإنسان معرّض للخطر إن لم يتقدّم الوعي الإنسانيّ بالسرعة ذاتها. وإذا خلّف العقل العلميّ وراءه حروبًا تهزّ عالم الإنسان، ولا نعني بهذا أنّ العلم هو ينبوع المآسي كلّها، بقدر ما نعني أنّ الخير الّذي في العلم لم يتيسّر له أن يكتمل. ففي العلم ما يمتّ إلى القوّة وفيه ما يمتّ إلى القيم، وتلاقي القوّة مع تلك القيم يساهمان بالضرورة في تقدّم الخير، وفي إعادة التوازن بين العقل والروح والشعور لتسترجع الطبيعة انسجامها مع الإنسان.
إنّ "الأرض اليباب" إذا نزل عليها المطر أنبتت زرعًا، والتقاء كلمة اليباب بالأرض إشارة قويّة إلى رؤية أليوت النابعة من إحساسه العميق والمؤمنة بحتميّة عودة البشرية إلى مأمنها، وتحقيق فرح كينونتها.