بعد جولته في المنطقة ولقائه عدداً من مسؤولي الدول العربية وخلال مشاركته في دافوس قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية السيد أنتوني بلينكن : " كانت هناك معادلة جديدة في الشرق الأوسط ، وجيران اسرائيل العرب والمسلمون كانوا مستعدين بمقتضاها لدمج اسرائيل في المنطقة ولكنهم كانوا ملتزمين بالقدر ذاته بمسار يؤدي الى قيام دولة فلسطينية . وتقول الدول العربية : " عليكم حل القضية الفلسطينية لسنا مستعدين للمساهمة في إعمار غزة لتسوّى بالأرض مجدداً . السعودية تبدي الاستعداد للقيام بأمور تتعلق بعلاقتها مع اسرائيل ولم تكن مستعدة للقيام بها من قبل . وهذا يفتح باب مستقبل مختلف تماماً وأكثر أمناً " . ويتزامن هذا الكلام مع ما قاله وزير خارجية السعودية في دافوس أيضــاً : " ان الممــلكة قد توافق على الاعتراف باسرائيل ولكن بعد حل القضية الفلسطينية " !!
السيد بلينكن لم يقل جديداً عن الموقف العربي الذي أعلن بالإجماع في قمة بيروت عام 2002 والداعي الى " إقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل بعد انسحابها من الأراضي المحتلة عام 67 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية " . بعض الدول العربية تسرّع وذهب الى إقامة العلاقات مع اسرائيل دون أن تنفذ شيئاً من ذلك بل على العكس نسفت أسس هذا القرار باعتبارها القــدس " عاصمة أبدية " لاسرائيل ، وإقــرار قانون " يهودية الدولة " ، والتوسّع وبناء مستوطنات في الضفة استوعبت اكثر من 800 ألف مستوطن ، وتريد احتلال كامل غزة واستكمال الاستيطان في الضفة وخصصّت في ميزانيتها مبلغاً ضخماً لذلك ، وتقوّض أسس السلطة الفلسطينية كما اشار بلينكن نفسه الى ذلك محذراً من مخاطره ، وتضغط على مصر والأردن لتهجير الفلسطينيين إليهما وتقصف في الساعات الأخيرة محيط المستشفى الأردني في رسالة استياء من مواقف الملكة رانيا ووزير الخارجية أيمن الصفدي ، واتهامها مصر في محكمة العدل الدولية بأنها تمنع إدخال المساعدات الى غزة !!
السعودية لم تطبّع العلاقة بعد وهي المركز الأهم في الحساب الأميركي – الاسرائيلي في هذا السياق ، وتصرّ حتى الآن على حل القضية الفلسطينية . فماذا تفعل أميركا ؟؟ بل ماذا فعلت منذ 2002 ، وقبلها منذ توقيع أوسلو بين ابو عمار ورابين وقد قتلت اسرائيل الاثنين ؟؟ ونتانياهو يريد أن يطبّع دون أي مقابل بل يريد دفن القضية الفلسطينية ويجب أن يتطّبع العرب مع هذه الحقيقة الاسرائيلية !! ومع ذلك فإن كلام بلينكن ينطوي على الاعتراف ب : عجز أميركا أمام اسرائيل ، او التواطؤ معها ، وفي الحالتين الانسياق وراء الأمر الواقع الذي تفرضه دولة الاحتلال ودائماً تحت عنوان : " حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها " . وهذه هي النتيجة التي اعترف بها اليوم في ظل إصرار اسرائيل على استمرار القتال والحرب ضد غزة حتى 2025 كما يقول نتانياهو ، وإصرار بن غفير على الاحتلال الكامل ، وبناء المستوطنات ، ودعوة عدد من مسؤولي الحكومة والكنيست الى " حرق غزة " و " تمزيق الفلسطينيين " وتهجيرهم وهذا ما أبرزته محكمة العدل الدولية بشكل موثق ، إضافة الى تصريح نتانياهو الواضح " أبلغت بلينكن لست موافقاً على إقامة دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب " .
مجدداً ، نقول : ليس العرب والفلسطينيون من يمنع قيام الدولة الفلسطينية التي يصرّ السيد بلينكن كلامياً على إقامتها للاستفادة من الباب المفتوح أمام مستقبل أكثر أمناً : الباب العربي لم يقفل . الباب الفلسطيني فتح منذ وقت طويل . الأبواب والنوافذ والممرات الاسرائيلية التي يمكن أن تؤدي الى حلول كانت ولا تزال مقفلة وأميركا لا تفعل شيئاً يدفع في هذا الاتجاه . ولذلك سوف يستمر هذا الصراع ويكون أكثر شدّة وإيلاماً من أي وقت مضى بعد هذه المذبحة المفتوحة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني . ومرة جديدة : عندما يقول بلينكن ما قاله ويعترف ضمناً بما نقوله ويقوله العرب وما لمسه في جولاته فهذا يعني أن القضية ليست قضية " حماس " أو هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك ، إنها قضية فلسطين . كل فلسطين ومستقبلها ومستقبل شعبها وحقه في إقامة دولته على أرضه وهذا شعب لن يتخلى عن هذا الحق مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات . والمسؤولية هنا أميركية – اسرائيلية مشتركة وعربية بمعنى عدم التراجع عن الموقف الذي أعلنه وزير خارجية السعودية والبناء عليه في سلسلة من الخطوات السياسية والدبلوماسية والإعلامية والمالية بدعم الشعب الفلسطيني ليس دفاعاً عنه فقط بل عن كل العرب والأمن والاستقرار والازدهار في دولهم .
أما المضحك المؤلم في كلام السيد بلينكن فهو قوله : " الصراع في غزة مؤلم . المعاناة تفطر قلبي والسؤال ماذا يجب فعله " ؟؟ " سلامة قلبك " سيد بلينكن ماذا عن قلوب الفلسطينيين ؟ ماذا عن عقولهم ونفوسهم وذاكرتهم ؟ ما فيها يكفي لاستمرار الصراع عقوداً جديدة إذا اضطر الأمر ولن يتراجعوا . أما السؤال الدائم ما الذي يجب فعله ؟ فإذا كانت أميركا لا تعرف ماذا يجب أن تفعل وهي " القوة الأكبر في العالم " راعية وقائدة العالم الحر " فمن يعرف ؟؟ ذكرني هذا السؤال بسؤال مشابه بعد ساعة من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عندما وصل السفير الأميركي في بيروت آنذاك السيد جيفري فيلتمان وسألنا : " يا الله ماذا بإمكاننا أن نفعل " ؟؟ كانت الوعود بالأفعال لا تتوقف ولا تنتهي . عند استشهاد الرجل الكبير كان السؤال ماذا بامكاننا أن نفعل ؟؟ هل هذا كاف ؟؟