يتبدّى المشهد على نحو جلي وأكثر مثولا أمام المعلم كمال جنبلاط عما كانت عليه نكبة 1948 والصورة بعد 7 تشرين الاول 2023 بدت أكثر وضوحا والشمس ليس فيها كسوف، لكن "كوفية فلسطين" بلونيها الأسود والأبيض في الميلاد السادس بعد المائة على الولادة (1917) تبقى عماد الذكرى والحاضرة الأكبر، لطالما شكّلت عنوانا سياسيا لتوريث العائلة والعباءة لزعامتها التاريخية، والتي أكثر من خبر معنى شهادات الدم بين أقرانها، وإنما هذه المرة بنكهة لها وقعها، أمام ما يجري في فلسطين على مرأى العالم اذ ذاك تصبح تحية فلسطين استثنائية.
شتّان بين من يعيب على صاحب الذكرى تقديرا قاتلا عام 1977 وقبله، دفاعا عن قضية ظنّا منه بسيناريو "ترانسفيري" طويل لن يقوَ على احلام الشعوب العربية وارادتهم التشبث بأرض ثاني القبلتين، وبين ما يدور في عقل الرجل "العنيد" في قناعاته حتى تحقيق الغاية والانتصار المأمولين نهاية المطاف، لأجل المبادئ التي آمن بها، بما في ذلك حلم مغامرة العقل في ارتياد العالم والمجهول معاً.
والحال، ان الواقع السياسي الذي كان مسيطرا وقتذاك أدركه الرجل أنه لن يلقَ رؤية قائد فذًّ تعلّم من التاريخ القديم والحديث وما يتوافق مع شعاره المفضّل "نكون او لا نكون" آذانا صاغية لما يتوق اليه أحرار العالم. طالما لا تزال بعض شعوب تلك السياسات تهتف باسم حكامها وتفديها "بالدم والروح" (حسب الهتاف العربي الشهير)، التي لا يراها ايضا ستحقق أمانيهم وتطلعاتهم الى نهضة أمتهم وبناء اوطانهم. كما لن تمنحهم ديموقراطية حقيقية، منطلقها توحيدي وعقلاني، بعيد من كل اشكال التقليد والعاطفة والتبعية، بما يخدم أجيالهم الحرّة الصاعدة. وتاليا لوضع الحدّ المطلوب مسبقا لسيناريو "مخادع"، قرأ بعمق استشراف فكره مرامٍ عدة وغايات أقلها تقسيمية، بموازاة بروز مشروع "اسرائيل الكبرى"، بحدودها المعلنة عقائديا وسياسيا من وادي العريش إلى النهر الكبير.
بيد ان غزة التي تنزف بشرا وحجرا اليوم وهي من يمثل خط الدفاع الأول أو الأخير، بوجه تحقيق المشروع الذي نبّه له باكرا الآنف الذكر وهي تنتصر معه بتلك الرؤية، ستجد نفسها في صعوبة ثنيّ "المتاجرين" سياسيا ممن قبضوا ويقبضون اليوم أثمانا توسعية ومختلفة على لظى جمر ولهيب غزة. الامر الذي سيضع من يقود غزة راهنا بين خياري: مصلحة الشعب أو أصحاب مشاريع "الإشهار السياسي".
"قل كلمتك وأمشي" شعار كامل مروة، ردده كمال جنبلاط على سامعيه ممن كان يُفترض أن يعوا مخاطر تلك المخططات، وليس لوعد "ابراهيم" فحسب وغزة واحد وأثنين الخ...مشى المفكر والفيلسوف فعاجله القدر وكان الإستشهاد المدوّي وقد ذُهل جبل الباروك برصاصات الغدر تلك والتي لم تُبصر وجه "المعلم"، على حدّ وصف الشاعر شوقي بزيع، ومشى معه الأرز الحزين الملتاع الشّامخ وهو ينوء بثلجه النّاصع الصامد بين جبال الشوف القوية والمختارة أصلبها، وقد أصابها غمد السيف حتى عمق القضية.
أما "الكوفية الفلسطينية" برمزيتها النضالية، لن تكون أمام ضريح كمال جنبلاط في ذكرى ميلاده "موضة جديدة"، يلفّها الشباب حول أعناقهم، أو لثاما لوجوههم كما في حالات مواجهات الشباب الفلسطيني مع الاحتلال، وانما تمسكا بقضية ونهج وهوية. وسيتألق وشاح فلسطين فوق سارية وطنية عروبية لطالما سُميت بعامود السماء، وهي تحمل في طيّاتها رسالة ناصعة من مخزون تراثي له امتداداته، عابق بالعروبة وشاهد على التاريخ ومعاصر لتقلّباته.
إن ما قيل وسيقال "لأقنيمي الثالوث الجنبلاطي" الرئيس وليد جنبلاط العاشق لفلسطين حتى الثمالة و "المثال الاغريقي لبقاء لبنان"، كما إسماه الكاتب سمير عطالله: "نراه يدور وهو في محله، الاشياء تدور من حوله وحولنا وهو الثابت، رجل الدولة وابن البيت في السلوك الوطني، يعرف حقيقة التحوّلات الدولية ويحرص على لبنان"، أو النائب تيمور جنبلاط المتمسك بالوجود وهاجسه الثبات والتمسك بالأرض. سيصل حتما إلى تخوم المتعطشين، وحيث الإحساس بمعاني دفء النضال ومحسنّات الثورة وغاية العبور على جسر الأضلع حفافا، وقد خيّطه مسار وجودي وطيد للذين ليس على صدورهم قميص الذين سيحررون العالم.
أخال المعلم يردد من جديد: "لم نعد وحدنا في العالم إنما المطلوب هو الصمود"... أما الورد فإليكِ يا غزة.