أرخت الحرب التدميريّة على قطاع غزة التي دخلت شهرها الثاني، بظلالها على الواقع السياسي للصراع العربي - الإسرائيلي الطويل مع مرور 75 عاماً على نكبة فلسطين، من دون إيجاد أي حل للقضية التي خلّفت الكثير من المآسي للشعب الفلسطيني الذي سُلب أرضه ووطنه وهويته وسيادته.
وعلى الرغم من استمرار الحرب التي ناهز عدد الشهداء فيها العشرة آلاف، بينهم ما يزيد عن 4000 طفل فلسطيني، باشرت الدوائر الغربيّة، ولا سيما في الولايات المتحدة، البحث عن حلول سياسيّة لمرحلة ما بعد الحرب، من دون أن تضغط أوّلاً في إتجاه وقف إطلاق النار وقد وفّرت بذلك غطاءً للاحتلال لمواصلة سياسة القتل والتدمير من دون هوادة.
وها هي واشنطن تُبدي حماسة بعد سنوات من الانكفاء حيال حلّ الدولتين وتُكرّر في أدبياتها ما معناه أن الخروج من المأزق الراهن ممكن في حال إقرار الأطراف المتصارعة بهذا الحل، متناسية بطبيعة الحال أن حليفتها الاستراتيجيّة والأولى في الشرق الأوسط، إسرائيل، هي من عطّلت هذا الحلّ عمليّاً طوال عقود بعدما استساغت السيطرة على الأراضي التي احتلّتها في حرب 1967 لأنّها تُمثّل أحلامها «التاريخيّة» بإقامة إسرائيل الكبرى!
ولكن ثمّة من يعتبر أن التكرار الببغائي لمقولة حل الدولتين لا يعدو كونه مجرّد استعادة لعناوين مضى عليها الزمن وباتت صعبة التحقق بفعل التعنّت الإسرائيلي وإصراره طوال سنوات على تغيير الواقع الميداني في الضفة الغربيّة والقدس والمناطق الأخرى المحتلّة عبر سياسات التوسع الاستيطاني، بما يجعل التراجع عنها مسألة في غاية الصعوبة ليس فقط سياسيّاً إنما أيضاً لوجستياً.
وإذا كان الإحتلال يرفض كل مقترحات السلام التي قُدّمت على مدى عقود، فما الذي سوف يدفعه لقبوله اليوم وهو بات أكثر تشدّداً وأكثر يمينية وتطرّفاً. طبعاً، ليس هناك ما يُمكن تسميته بالاعتدال في إسرائيل، المقارنة هي بين المتطرّفين والأكثر تطرفاً. ثمّة وزير اقترح رمي قنبلة نووية على قطاع غزة، وهو عبّر عن مكنونات معظم الطبقة السياسيّة الإسرائيليّة بطريقة فجّة، ولو أنها عادت وتنصّلت من تصريحاته، كأنّ القتل المنهجي المستمرّ منذ شهر في غزة، وكلّ الحروب السابقة لا تماثل القنبلة النووية في أضرارها وتدميرها.
ولعلّ هذه الظروف المعقّدة والمتشابكة التي سوف تحول دون أن يرى حلّ الدولتين النور في المدى المنظور ودون القيام بإجراءات تراجعيّة جذريّة من قبل الاحتلال، لا يبدو أنه في وارد القيام بها، ثمّة من يعود إلى طرح قديم جديد هو حل الدولة الواحدة الذي غالباً ما يطفو على السطح في النقاشات السياسيّة ومن ثمّ يخفت مجدّداً.
وإذا كانت الآراء منقسمة بشدّة حيال هذا الطرح في المعسكرين الإسرائيلي والفلسطيني، فإنّ العنوان العريض (أي حل الدولة الواحدة) يبقى غير كاف لتحديد المواقف منه، طبقاً لطبيعة الدولة الواحدة ومواصفاتها وهويّتها وطبيعة تركيبتها وموازين القوى فيها.
فهل ستكون دولة واحدة بثنائيّة قوميّة عربيّة ويهوديّة؟ وهل سيتبع ذلك تحديد للمناطق الجغرافيّة وإعادة فرزها وفق الأكثريات السكانيّة لكلّ من القوميّتين؟ وما الفرق عندئذ بين هذا الحل وحل الدولتَين إذا كان المطلوب إعادة نقل السكان وتغيير أماكن إقامتهم؟
أما الحل الثاني بالنسبة إلى الدولة الواحدة، فهو أن تكون ديمقراطيّة علمانيّة لا تميّز بين مواطنيها أو تفرّق بينهم وفق انتماءاتهم القوميّة أو المذهبيّة أو العرقيّة، فيتساوون أمام القانون الذي يعاملهم سواسية، لا أن يكون في الدولة مواطنون درجة أولى ومواطنون درجة ثانية وثالثة بحسب الانتماء الديني أو القومي.
يُمكن تصوّر مدى صعوبة هذا الخيار على ضوء الرفض الإسرائيلي المساواة بينهم وبين الفلسطينيين (وبعضهم يذهب في هذه الأيام لأحقيّة قتل الأطفال الفلسطينيين، والبعض الآخر يصفهم بالحيوانات البشريّة!)، وما يزيد حتماً من رفضهم هو أنهم سوف يتحوّلون إلى أقليّة في هذا المجتمع الموحّد ولن يتمكّنوا من الحفاظ على «مكاسبهم» التي حقّقوها على مدى عقود من السيطرة، لا بل السطوة على أرض فلسطين التاريخيّة ومن ثمّ على أراضي 1967.
في منطقة توصف تاريخيّاً بأنها مهد الحضارات والديانات، من الصعب جدّاً نشوء وتقدّم دولة علمانيّة بالمفهوم التقليدي للتجربة وبما يُماثل التجارب الأوروبّية التي فصلت في مرحلة معيّنة بين الكنيسة والدولة، ولو أن المجتمعات الأوروبّية تشهد راهناً عودة خطرة للتشدّد والشعبوية وثقافة الحقد والكراهية والفوقيّة.
في كلتا الحالتين، المسألة معقّدة وصعبة، ويضاعف من هذه الصعوبات والتعقيدات عدم تبلور الفكرة لدى أي من المجتمعين وعدم تقبّلهم إيّاها. ومع كلّ ذلك، سوف تبقى منطقة الشرق الأوسط متفجّرة وملتهبة.