عصور البؤس.. هل تنتهي؟
08 نوفمبر 2023
14:39
Article Content
ترجعنا الذكرى أحيانا، للحريق الّذي كاد يلتهم كاتدرائية باريس في 15 نيسان 2015، وكيف أنّ سيّدة النور كانت صامدة مهما بلغت النيران.
ولمّا تنادى المؤمنون من أصقاع الدنيا كلّها، لترميم الكاتدرائية، قال المفكّر الفرنسيّ أوليفييه بوريول: "فيكتور هوغو يشكر كلّ المتبرّعين لنوتردام ، ويرجو أن يفعلوا الشيء ذاته مع البؤساء".
لو أجلنا النظر في أساتذة الفكر وملهمي الإنسانيّة في العصور كلّها، لرأينا "الشقاء حقيقة تطال الوجود البشريّ"، كما يقول شوبنهاور. وهذه الحقيقة لا نخطئها منذ صخرة سيزيف الّتي نصادفها دومًا، في حياتنا، ومنذ جحيم دانتي الّذي مصدره الإنسان نفسه في هذا العالم. "الأدب وليد أحداث الحياة"، كما تقول نازك الملائكة، ويعني هذا أنّ وظيفيّة الأدب أن يحدث فارقًا في تطوّر المجتمعات وارتقائها. ويصل بنا هذا إلى سؤال مبدئيّ: هل يكون بإمكان الأديب أن ينزوي في صومعته، وبعده أن يكون الأدب حبيس الكتب؟ ولا يعني هذا أنّ الأدب مرآة عاكسة للعالم الحقيقيّ فحسب، فهمّ الكتابة ليس الإفادة فقط، وليس الجمال وكفى، وإنّما هو توازن بين هذين الجانبين، من دون أن يتعالى أحدهما على الآخر.
وفي هذا السياق أذكر هنا رواية "البؤساء" لفكتور هوغو الّتي أثّرت تاثيرًا بالغًا في الفكر العالميّ، فصوّرت واقع الحياة البشريّة آنذاك، ودعت إلى الاحتكام إلى العدل والرحمة، في مجتمع كان فيه الجميع تقريبًا، من الفقراء، وقلّة تمتلك النفوذ والثروة. كما أذكر رواية "المعذّبون في الأرض" لعميد الأدب العربيّّ الّتي لا تكاد تختلف عن "البؤساء"، حيث أوغل طه حسين في واقع أربعينيّات القرن التاسع عشر، وصوّر قضاياه ومشاكله بعمق هزّ بنية مجتمع راكد تسوده الطبقات المغلوبة، ويعجّ بالبؤس والتخلّف.
أتت الروايتان لتغيير تطلّعات الشعب، ذلك أنّ الشعب صنع الثورة الفرنسيّة، وساهم في إنجاح الثورة في مصر، مع فارق مهمّ يكمن في أنّ كلا الأديبين صاغ حقلًا روائيّا ينتمي إلى ثقافته ورؤيته الفريدة.
باختصار، تكشف "البؤساء" و"المعذّبون في الأرض" الغطاء عن الصراعات الظاهرة والخفيّة في العالم الّذي نعيشه، وتفتننا بشخصيات من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تعيش اضطرابات مأساويّة عميقة لا تختلف في تشكّلها من تجارب معيشيّة وتاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة عند إنسان القرنين العشرين والحادي والعشرين، "فالشخصيّة التقليديّة للمجتمع والإنسان لم تتمّّ هزيمتها بعد، وبنية المجتمع مازالت كما هي "يقول مطاع صفدي. ويعني ذلك أنّ العلل لا تزال تلمّ بالإنسان في عالم يبتكر التكنولوجيا، وتتغلّب فيه ثورة المعلومات بسرعة غير مسبوقة. فالحروب الّتي حدثت في التاريخ الماضي لا تختلف عن الحاضر ، ولا فرق بين أن يُقتل الناس برمح أو بسلاح مبتكر للغاية.
وإذا كانت الأمم في تطوّرها المادّيّ الهائل في مجال الحضارة الجديدة تتقدّم، فإنّها لم ترتقِ "إلى مرحلة التعامل الإنسانيّ"، كما يرى فيكو.
وإذا خلنا هذا التقدّم مسلك خير وخاتمة الشقاء، وجدناه لا يخلو من شرّ، فانغماس الإنسان في استهلاك مظاهر المدنيّة السطحيّة الساذجة أبعدَ ذاته عن قيمتها الإنسانيّة،" وعن شعوره الدينيّ وحبّ الجمال والعقل المبدع، وكلّها مقاييس لا تتبدّل"، كما يقول كمال جنبلاط.
وتلك إشارة قويّة إلى مناخات غير طبيعيّة جعلت "الإنسان كائنًا اقتصاديّا ينتج ويستهلك"، وليس مستصعبًا إعادة التوازن الواقعيّ إليه.