تجتاح لبنان هذه الأيام حملة من الكراهية والتحريض في وجه النازحين السوريين بالدرجة الأولى، وتمتد إلى اللاجئين الفلسطينيين، وتطال، في بعض المواضع، الفرز الإسلامي - المسيحي في البلد. ويتربع على رأس هذه الحملة صهر رئيس الجمهورية، وزير خارجية لبنان، جبران باسيل الذي يقود مجموعة تشبه النازيين الجدد بطروحها وشعاراتها. يتجمّع هؤلاء أمام المحال التي يعمل فيها غير لبنانيين، ويهتفون شعارات عنصرية، ويدخلون إليها، برفقة الإعلام، ليُقنعوا السوريين بالمغادرة إلى بلادهم بعد عودة الاستقرار الأمني إليها. وفي وقت عجزت الحكومة عن صياغة سياسة وطنية عامة لمعالجة أزمة النزوح، واكتفت في بيانها الوزاري بالحديث عن المبادرة الروسية، لجأت رئاسة الجمهورية إلى مجلس الدفاع الأعلى للتعاطي مع مخيمات النازحين وفقاً لمقاربة أمنية، ولجأ باسيل إلى البلديات ليبيح لشرطتها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمضايقتهم ودفعهم إلى المغادرة.
فعلياً، يتم اعتماد إجراءات ترحيل قسري تحت ستار حماية اليد العاملة اللبنانية من العمالة الأجنبية، ومن خلال التشدد في تطبيق القوانين باعتبارها الخيار الذي يدفع السوريين إلى المغادرة. يجري ذلك بمعزل عن الجهود التي يقوم بها الأمن العام أو تلك التي تتابعها المبادرة الروسية، وبلا تأمين الضمانات الحقيقية التي يجب أن يحصل عليها هؤلاء لأجل عودتهم الآمنة. طبعاً، يمكن تطبيق القوانين بشكل اعتباطي خاصة في الوزارات التي يسيطر عليها جماعة "التيار الحر"، إذ وبشكل مُقزز، يواكب الإعلام حملات الدهم الحكومية لمحال يعمل فيها بعض السوريين أو الأجانب، ويُرشد بعض الموتورين الجهاز الحكومي وشرطة البلدية إلى السوري الذي يعمل وكأنه هارب أو مُرتكب!
إن النقاش حول مقاربة ملف النزوح السوري لا يأتي منعزلاً عن جملة خطوات وتراكمات أفضت إلى الإخلال في التوازن الذي تكفل بحماية السلم الداخلي بعد انقضاء الحرب الأهلية. علماً أن رئيس جمهورية لبنان أطلق عهداً وَصَفه مناصروه بـ "القوي"، باعتبار أنه يحظى بتمثيل القسم الأكبر من النواب المسيحيين في المجلس النيابي اللبناني. لكن عهد ميشال عون أطلق مساراً من السياسات التي قامت على فلسفة استعادة الحقوق المسيحية التي، وفق رؤيته، أُهدِرَت بفعل التحولات الديموغرافية وبفعل "اتفاق الطائف" الذي أعاد توزيع الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، وحَصَرَ المناصفة الطائفية في التعيينات بالفئة الأولى. وبذلك، أصبح المُقتَرَب الديموغرافي، بكل جوانبه، ناظماً رئيساً في الاستراتيجيات التي يعتمدها تيار رئيس الجمهورية، وحاز التحريض على النازحين واللاجئين على مجمل المساحة في خطابه السياسي، إضافة طبعاً إلى الشق الآخر من الخطة التي تهدف إلى القضاء على تسوية الطائف.
وتنبثق مبررات الضغط على النازحين السوريين من استنتاجات مُبكرة وقراءات مبتورة للتحولات التي جرت في سورية، فالاستقرار الذي أمّنه النظام في مناطقه، ليس كافياً للعودة الآمنة التي تحتاج إلى جملة ضمانات لا تزال مفقودة. عدا عن أن لبنان يتغاضى عن أنه كان جزءاً، ولا يزال، من أسباب التهجير والحرب في سورية عبر التغيرات الديموغرافية التي دفع في اتجاهها حلفاء عون هناك، وعبر كثير من الوقائع التي لا تزال قائمة في المناطق الحدودية المتاخمة. الرواية التي يعتمدها فريق العهد لا تعترف بوجود عوائق سياسية ومعيشية تتعلّق بسلامة النازحين أن هم قرروا العودة. هؤلاء يعملون وفقاً لقناعة تقول بإبقاء اللاجئين في وضعية مُوقتة ومُزرية في أن معاً، محرومين من العيش الكريم حتى يدفعهم ذلك إلى العودة.
الضيق من الآخر يسحب نفسه على الشأن الفلسطيني ويجري تناول موضوع اللاجئين بشكل يبدو مستفيداً من الزخم الذي تطرحه "صفقة القرن" والتي تثير المخاوف من إجبار الفلسطينيين على التَوطُّن في الدول التي لجأوا إليها. نجح فريق عون في ترويج الدعاية التي تخلط بين موضوعي النازحين واللاجئين بتكريس مقولة مليون ونصف سوري ونصف مليون فلسطيني كتهديد وجودي للكيان اللبناني، على رغم أن كل الأرقام الناجمة عن عملية تعداد وإحصاء أجرتها الهيئات الرسمية تخالف إلى حد بعيد تلك الأقاويل. كما أن الفلسطينيين محرومون من التملك والعمل في كثير من المهن. وتُقابل الديبلوماسية اللبنانية "صفقة القرن" بالتحدث عن "إعادة توزيع" اللاجئين الفلسطينيين على دول تستطيع تحمّل أعبائهم. وطبعاً يُضعف ذلك صدقية المقاربة اللبنانية التي تقول بتمسك لبنان بحق العودة للاجئين، ليصبح المهم إبعاد عبء هؤلاء عن الديموغرافيا اللبنانية كيفما كان!
جنون الديموغرافيا لم يقف عند هذا الحد، فاستفحال هذا الهَوَس يشمل الحد من تملك المسلمين واستئجارهم منازل في بعض المناطق المسيحية بغطاء من أعلى مرجعية، ومُفاخرته بذلك، وبصمت مُريب من حلفاء العهد السياسيين، ومن شركائه الاقتصاديين! ولا شك في أن تشجيع فريق الرئاسة لهذه الأفعال يُفضي إلى تعميم النموذج على المناطق كافة، بما يُعيد انتاج دوافع الانعزال التقليدي بشكل يُعاكس الثقافة التي تبنّتها الكنيسة في القول بالعيش معاً، وفي تأكيد الشراكة، عبر كل القراءات التي أجرتها بعد انتهاء الحرب. تلك حالة شاذة لا يقبلها اللبنانيون وهي أكبر خطر يواجه المسيحيين قبل غيرهم.
تغيّر وجه لبنان الذي دمّرته الحرب الأهلية سابقاً بفعل هذا النوع من التحريض والتمييز، الذي ولّد تمرّداً على الدولة والنظام من فئات شعرت بالتهميش خلال فترة السبعينات. ذلك أن استفحال العنصرية والطائفية بهذا الشكل، وتبنيها من أعلى المرجعيات في الدولة، إنما يشكّل المدخل المنطقي لإعادة توليد الانقسام على الأساسيات وعلى القضايا العميقة. والغريب أن لبنان انتصر على الانقسام وعالج رواسب الحرب الأهلية بطرح متقدم لمفهوم التعددية، وبالتعايش الإسلامي - المسيحي الذي تجسّد على الأرض وتخطى مسألة الأعداد والعِقَد الديموغرافية.
يقف الائتلاف السياسي الحاكم عاجزاً أمام تفاقم النزعة الانعزالية وكأنه يدفعها دفعاً إلى الأمام، في ظل تواطؤ مُريب تقف خلفه قوى يسكنها هاجس المُقترب الديموغرافي نفسه، وأخرى تتعلّق بأحلاف اقتصادية وشبكة التقاء مصالح وعينها على مستقبل السلام الاقتصادي في المنطقة.
تغنى هذا العهد بالنموذج اللبناني على أهم المنابر العالمية، وطَرَح فكرة أن يؤسس لبنان "أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار" وذلك لتسويق نموذجه الإنساني والتعددي في التعايش أمام العالم... ونِعم النموذج الذي يُقدّمه...