لا حدث إقليمياً أو دولياً يطغى على ما يحدث في فلسطين. الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة فاقت كلّ التوقعات. ليس جديداً على الاحتلال الإسرائيلي ممارسة القتل الجماعي وتطبيق سياسات الإنتقام الجماعي من دون الإكتراث للقانون أو المواثيق الدوليّة؛ ولكن ضراوة الردّ وبشاعته غير مسبوقة بكل المقاييس.
وفي الوقت الذي يُنكّل بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة تحت أعين ما يُسمّى «المجتمع الدولي» الذي لم يكترث للحظة وقف إطلاق النار تاركاً الغزيين لمصيرهم أي الموت المحتوم، يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياسته المعتادة في القتل والاعتقالات في الضفة الغربيّة مستفيداً من الغطاء الدولي الممنوح له للنفاذ نحو تطبيق مشاريعه القمعيّة.
الواقع الإنساني في قطاع غزة وصل إلى الخطوط الحمراء على ضوء انهيار القطاع الصحي وفقدان المواد الأساسيّة كالمستلزمات الطبيّة والأدوية والمحروقات وسواها من الحاجيات الأساسيّة التي لم تعد متوفرة، وهو ما ينذر بالمزيد من العواقب الخطيرة التي لا يمكن تصوّر حجمها في المدى القريب.
ثم هناك المفهوم الملتبس المتصل بـ»الهدنة الإنسانية» التي دعت إليها الأمم المتحدة والولايات المتحدة وكندا، وهي بمثابة التفاف على وقف إطلاق النار وليست سوى تمديد للحرب إلى أجل غير مسمّى. وبمعزل عن أهميتها من الناحية الإنسانيّة، إلا أنها تبقى قاصرة عن التعامل مع الواقع القائم على الأرض.
بطبيعة الحال، إسرائيل التي هدد وزير دفاعها في الساعات الأولى من الحرب بأنّ حكومته ستفرض حصار التجويع على شعب غزة بما يناقض كل المواثيق الدولية والقوانين الإنسانية، لن تكترث لما يسمّى «هدنة إنسانيّة» وهي التي تسمح بدخول القليل من القوافل من معبر رفح بما لا يسدّ الحدّ الأدنى من النقص الموجود في كل المجالات.
التعامل الغربي مع هذه الحرب بات يطرح علامات استفهام أساسيّة حول مصداقية الأنظمة التي تدّعي الحفاظ على حقوق الإنسان والحريات بينما تسكت عن القتل الممنهج للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس. كما أنّ سياسة المعايير المزدوجة باتت مفضوحة ومقيتة ومثيرة للاشمئزاز.
نُشر العديد من الشرائط المصورة على وسائل التواصل الإجتماعي لتصريحات سياسيّة صادرة عن مسؤولين أوروبيين إبان الغزو الروسي لأوكرانيا يستخدمون فيها أشد عبارات الانتقاد والرفض، وحشد حلف الأطلسي كل قواته لمواجهة تلك الحرب، ولكن هناك إشاحة نظر كاملة عما يجري في فلسطين لا بل تبرير كامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي بما يناقض أسس القانون الدولي.
من هنا، إلى أين؟ واضح أنّ إسرائيل لن تهدر الفرصة الثمينة التي تمتلكها راهناً من خلال دعم الحكومات الغربيّة اللامحدود لها لتنقض على الشعب الفلسطيني وتسعى لتغيير موازين القوى الحالية. وبالتالي، سوف تواصل سياسة الإبادة الجماعيّة من دون أن يعني ذلك أنّها سوف تتمكن من القضاء على حركة «حماس» كما أعلنت منذ البداية على أنّه أحد أهدافها الرئيسيّة.
والمقاومة الفلسطينية لا تبدو أنّها في صدد التراجع رغم الخسائر الهائلة بشرياً واقتصادياً لا بل هي لا تزال تملك زمام المبادرة من الناحية العسكريّة وآخرها كان محاولة تسلل فرقة «كوماندوس» بحري من جهة عسقلان، ما يعني أنّ كل الغارات الجوية والقصف الهمجي الذي نفّذته إسرائيل بوحشيّة خلال الأسبوعين الماضيين لم يؤد الهدف العسكري المرسوم.
المنطقة على عتبة متغيّرات هائلة، واستعادة حقبة ما قبل السابع من أكتوبر شبه مستحيلة. فالتحولات تفوق التوقعات وتتجاوز التحليلات التقليديّة التي مضى عليها الزمن.