الإنسانية تعيش ازدواجية بالغة التعقيد في الانفصام الأخلاقي وترهلاً شديد التباين في مقاربة القيم الاجتماعية والدينية الضامنة لمعايير الأخلاقيات، وكلما استبد بها مسار التطور المدني وارتفع، زادت تعقيداً في فهم الأشياء، وغدت أسيرة مفاهيم متناقضة للأمور الواحدة.
ليس مستغرباً ألا تشبه تسمية "المجتمع الدولي" من حيث الحضور والوجود الفعليين سوى تسمية "قانون الجنس البشري" التي أطلقها الفيلسوف والقانوني البريطاني جيريمي بنثام Jeremy Bentham.
هي تعريفات هلامية مطاطة تُستخدم كأدبيات أخلاقية في سياق رسم البعض لخطوط سياساته العامة والخارجية تحديداً، من حيث قبول الأمور أو رفضها، وهو في الحقيقة وجود وهمي، مجتمع الأقوياء في فرض سطوتهم المادية والأدبية لمفاهيم الأخلاقيات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ولكنها تسقط مدوّية في صمت مطبق عند حصول الأزمات الإنسانية الكبرى لتختصر في ظل القتل القاسي وتظهر حقيقة المعايير الدولية وتباين تناقضها بأن العالم ذو شريعة واحدة، تحكمه قوانين القوة لا قوة الشريعة والقوانين.
الغرب الذي أوغل في ترسيم حدود القيم الإنسانية وأطلق مسارات كثيرة التشابك حول حقوق الإنسان الفردية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والاعتقادية مع اندفاعات قوية تطاول سطوة جسد الفرد بين الجماعات، والحريات الجنسية وردم فروقات الجنس الفطرية والتكوينية بين أركان المجتمع وإطلاق حملات عملاقة في سعة اختيار ما يريد أن يكونه المرء، لا كما كان أو يكون كجنس بشري أو لا يكون، هذا الغرب تعتريه أزمة حادة في الركون الى أخلاقيات مستقرة ثابتة أو أقله بطيئة التقلبات الظرفية، كالقتل وأساليبه ووسائله وأدواته، إذ كيف تقف بلا هوادة مع حقوق إنسان وتنسلّ الى صمت مطبق في إعارة الاهتمام لحقوق إنسان آخر؟
كيف يكون القتل شائناً وكيف يكون بائناً ومتى يُستلّ فعل الإدانة والتحريم في الحضور ومتى يسقط في غياهب النسيان؟
الموضوع قد يكون متشابهاً في أبعاده ومضامينه ولكنه ذو نظرات مختلفة تتحكم في أصحابها غالباً جذوة قبلية أو ردة دينية أو يقظة قومية ولكن المؤكد أنها ردة فعل ندامة على فعل قد يكون اقترف في الصراعات المزمنة إلا أن الثمن يدفعه غالباً المعذبون في الأرض.
لا ينكرن أحد أن الغرب بعد دموية حروبه المتنقلة المتعددة وصراعاته القاتلة وتحديداً في القرن العشرين، رفع من شأن الفرد الى أعلى سلم القيم الإنسانية وبوّأه مكانة اجتماعية عليا فارهة الانضباط شديدة العناية داخل مجتمعاته وضمن مثالية مفرطة الحضور لا تشبه أفعال أسلافه على مدى العصور الغابرة ولا يجاريه الشرق حتماً في حال ما مرّ عليه أو ما استقر إليه.
ما عاشته أوروبا وعانته قبل حربين عالميتين وأثناءها وبعدها يدفع الى أخذ دروس تاريخية وإنتاج قيم إنسانية واجتماعية اعتقد الجميع المعني بأنها ستحرّم الحروب وستسعى الى منع حدوثها. إلا أن أسباباً فائقة الاعتبار أسقطت هذه الاعتقاد الملتبس عندما يكون الأمر متعلقاً بخارج الحدود المكانية للقارة القديمة حيث تتبدّل قيم الاعتقاد ومفاهيم الاعتبارات الإنسانية وتنسج نماذج تفصح عن العمق الحقيقي والدفين لجوهر تكوينها الاجتماعي والإنساني. إن صناعة السلاح وحجمها، وحدهما كافيان لتبيان هذا التناقض الحاد الذي تعيشه المجتمعات "المتحضرة" بين الإيغال الممجوج في إعلاء مقام الفرد وحقوقه المفرطة في الإطراء تجاه الكائن البشري، وبين التوغل في إنتاج آلات القتل وأدواته التى تخرج عمّا يألف استيعابه العقل البشري من مردود مادّي واقتصادي من هذه التجارة لو قُيّض أو أتيح تقسميه على سكان الأرض لكان نصيب الفرد الواحد يتجاوز المئتين وخمسين دولاراً.
هذه الأعمال المتوحشة كصناعة للموت فاقت العمليات المروّعة للاتجار بالبشر التي تمتد منذ قرون وتأخذ أشكالاً مختلفة منها، ولولا الحرب في أوكرانيا لكان القول جائزاً إنهم رحماء بينهم أشداء على الآخرين. أما محو غزة عن الوجود فسيصنّف العالم وحضاراته المرتبكة بأنه عديم الأخلاق وأنه مصاب بانفصام في المعايير ونقص حادّ في الحضور الإنساني…
*المدير العام لوزارة الإعلام