منذ سنوات طويلة يتم اتخاذ القرارات الرئيسية الخاصة برسم وتنفيذ سياسة البترول والغاز في لبنان وفق تسلسل على سلم الصلاحيات ينتهي في مجلس الوزراء، الذي يبني رأيه على توصيات وزير الطاقة والمياه. وهذا الاخير يعلل رأيه بتوصيات هيئة ادارة قطاع البترول، التي تختبئ بدورها وراء توصيات مستشارين اجانب معظمهم مجهولو الهوية، لا يعرف اللبنانيون لا وجوههم ولا حتى بشكل عام اسماءهم.
كانت هذه هي الحال حتى الأمس القريب، عندما صدر في جريدة “الاخبار” مقال بقلم الجيولوجي النرويجي من اصل عراقي فاروق القاسم، بعنوان “توضيحات وتعليقات لتيسير الحوار في قطاع البترول : فلنتأكد من وجود النفط اولا !”. ويستحق هذا المقال اهتماما خاصا لانه يكشف لاول مرة عن هوية ووجهة نظر أبرز المستشارين الذين لعبوا في الكواليس دورا أساسيا في توجيه مسيرة البترول والغاز، بما في ذلك نواحيها السياسية والقانونية والتشريعية والتنظيمية.
نادرون جدا هم اللبنانيون الذين كانوا قد سبق وسمعوا بهذا الدوراو حتى باسم السيد القاسم، لان عمله مع الجهات المعنية قد اتسم بدرجة عالية من التكتم والسرية. ولم يكن من الصدف ان يخرج لاول مرة من الظل ويكتب المقال المشار اليه الذي نشره في هذا الظرف بالذات والذي جاء كرد على رسالة مفتوحة وجهها كاتب هذه الأسطر الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، للفت انتباهه الى الانحرافات الكارثية في سياسة البترول والغاز والى ضرورة وطرق تصحيحها قبل فوات الاوان. وقد نشرت هذه الرسالة بتاريخ 6 كانون الثاني 2018 في “الاخبار”، اي قبل اسبوع واحد من صدور مقال القاسم، واستجابة لطلب كبار المسؤولين عن هذا القطاع. كما ان خروج السيد القاسم من وراء الستار قد تم في أعقاب الامر الواقع الذي كرسته موافقة مجلس الوزراء على اول اتفاقيتي استكشاف وانتاج في الرقعتين 4 و 9. امر واقع يلزم لبنان لمدة تقارب الاربعين عاما واصبح من الصعب، ان لم نقل من شبه المستحيل، التراجع عنه. ومن اللافت ان هذا المقال يدافع عن كل الخطوات التي ادت الى هاتين الاتفاقيتين ويتزامن مع الضجيج الاعلامي الذي ارتفع فجأة، تحت ستار الشفافية، للمطالبة بتجميد اربعة مشاريع قوانين تطال انشاء صندوق سيادي، ومديرية خاصة للاصول البترولية، وانشاء شركة نفط وطنية بسرعة (مما يعارضه السيد القاسم بشدة) واقرار مشروع قانون استثمار الموارد البترولية على اليابسة.
الا ان للموضوع ابعاد اخرى تتجاوز الى حد بعيد الدور الذي لعبه فاروق القاسم في رسم وتنفيذ السياسة البترولية في لبنان، اذ ان المستشار هذا قد سبق واحتل مدة تتجاوز العشرين عاما مناصب عالية في ادارة قطاع النفط في النرويج، قبل ان ينطلق عام 1992 للعمل الحر بصفة “مستشارنفطي دولي”، كما يعرف عن نفسه. أضف الى ذلك ان بين النرويج ولبنان، منذ عام 2006، اتفاقية تعاون واسع تشمل شتى اوجه الاستشارات والتدريب في مختلف النواحي القانونية والتنظيمية والتقنية لتطوير صناعة البترول الناشئة في لبنان. علاوة على ذلك فإن المسؤولين اللبنانيين عن هذا القطاع يرددون منذ سنوات طويلة ان سياسة استثمار الثروة النفطية الموعودة مستوحاة من “النموذج النرويجي”، مع الاشارة الى نجاح النروبج في هذا المجال، بما في ذلك بشكل خاص مشاركة الدولة، وتطوير شركة البترول الوطنية ستاتويل التي انطلقت من العدم منذ أقل من خمسة عقود لتصبح واحدة من اكبر الشركات البترولية في العالم، اضافة الى انشاء صندوق سيادي تجاوزت موجوداته الف مليار دولا ر.
هذا الوضع يوحي لاول وهلة للمواطن العادي بان كل شيئ يسيرعلى احسن ما يرام، طالما ان مسيرة البترول والغاز تتم تحت مظلة الإنجازات النرويجية، وبالتعاون الرسمي مع هذا البلد، واخيرا لا اخرا وفقا لنصائح وآراء السيد فاروق القاسم الذي يعرف عن نفسه بانه "لعب دورا اساسيا في تأسيس القطاع البترولي النرويجي…وشغل منصبا عاليا في النرويج بين 1968 و 1990 " ، قبل ان ينصرف منذ 1992 الى العمل الحر.
بعد هذا التعريف بنفسه يؤكد السيد القاسم حرفيا انه كان له "قبل عشر سنوات شرف المشاركة في مناقشة خطوط السياسة البترولية للبنان، وفي مراحل مهمة، من عملية تحويل السياسة النفطية الى تشريعات وتنظيمات ادارية، وتحضيرات اولية لجولات التراخيص". وينتهز المستشارالمذكور هذه الفرصة ليعرب، دون اي تحفظ،، عن رضاه الكامل على كل ما حصل، اذ يشير في مطلع مقاله الى ان "تلزيم لبنان الرقعتي4 و9 يشكل خطوة مهمة وبداية حسنة يؤمل ان تؤدي الى اثبات وجود الغاز والنفط من جهة، والى استمرار حسن ادارة العمليات البترولية…. وما حققه لبنان حتى الآن من تحضيرات وتحصينات تشريعية وتنظيمية ".
هذا الكلام للسيد القاسم يثبت ما كان يقال همسا حول اهمية الدور الذي لعبه وما يزال بعيدا عن الانظار والذي لا يقتصرعلى دور مجرد استشاري عادي، بل يتجاوز ذلك الى التخطيط والتنفيذ الفعلي، حتى في مجالات التشريع، بما في ذلك بشكل خاص التحوير المذهل لركيزة اساسية من ركائز القانون البترولي 132/2010، كما ستلي الاشارة الى ذلك ادناه. لذلك فان ما كتبه في مقاله هو بغاية الاهمية والخطورة. الاهمية اولا لان هذه هي المرة الاولى التي يعلن فيها ابرز المستشارين الذين عملوا وراء الستار عن هويته ورأيه ودوره في اكثر النواحي حساسية من سياسة استثمار البترول والغاز. وهو، علاوة على ذلك، كلام بغاية الخطورة لانه يضع، ولاول مرة، الموضوع في اطارالتعاون مع النرويج، وفي ظل الإدعاء بتطبيق ما يسمى "النموذج النرويجي".
ومما يزيد في ضرورة التمعن في مقال السيد القاسم ان ما كتبه في "الاخبار" يناقض، في نقاط جوهربة، ما حصل فعلا في النروبج، كما يتعارض كليا مع ما جاء في كتابه "النموذج النرويجي" الذي وضعه بالانكيزية ونشر ترجمته الى العربية في الكويت، في اذار/مارس 2010 .ويمتاز هذا الكتاب بكونه احد أهم المراجع لتاريخ وتفاصيل تطورهذه الصناعة في النرويج، خاصة من ناحية الجهود التي بذلها هذا البلد لمناهضة هيمنة الشركات الاجنبية ولاكتساب الخبرات والقدرات البشرية اللازمة لاحكام السيطرة الوطنبة على هذه الصناعة. ويشير المؤلف على حق الى ان تعبير "النموذج النرويجي" لا يعني نهجا جامدا لم يتغير خلال نصف قرن، بل يغطي سلسلة تجارب أملتها الظروف. بيد ان الثوابت والأهداف التي لم تتغير فهي في الدرجة الاولى الشفافية ومشاركة الدولة الفعلية، عبر شركة نفط وطنية، في شتى مراحل صناعة البترول والغاز.
مع اخذ هذا التوضيح بعين الاعتبار، لا يحتاج المرء لكثير من الجهد والوقت كي يدرك ان ما تم في لبنان لا علاقة لا من قريب ولا من بعيد بما يسمى "النموذج النرويجي"، لا بل انه يناقضه كليا، خاصة لجهة الامور الاساسية كحقوق ملكية الموارد البترولية، ودور الدولة المحوري وشركتها الوطنية، ونظام الاستثمار والشفافية ومكافحة الفسااد ، الخ…ولا يقل اهمية وغرابة عن ذلك ان ما يؤكده فاروق القاسم في مقاله المشار اليه يتعارض، في النقاط الجوهربة، مع ما ورد في كتابه حول هذا الموضوع، كما يتعارض مع المبادئ الاساسية التي قامت عليها سياسة النرويج البترولية والغازية، خاصة في المرحلة الاولى التي يسميها المؤلف فترة التأسيس ثم فترة النمو، اي من عام 1958 حتى عام 1978، وهي المرحلة التي واجهت فيها النرويج ظروفا وتحديات تشبه الى حد بعيد ظروف لبنان حاليا وظروف اي بلد آخرلا يملك بعد الوسائل التقنية والمالية اللازمة لاستثمارثرواته بنفسه، ويحتاج من ثمة لاجتذاب شركات اجنبية للتعاون معها ضمن شروط تتيح له امكانية تطوير قدراته.
والواقع هوان ما فعلته النرويج في هذه المرحلة لا يختلف في خطوطه العريضة عما فعلته عشرات الدول الاخرى، سواء كانت منتجة للبترول او دول لم تتثبت بعد من وجود البترول والغاز في اراضيها او تحت مياهها. اول واهم ما فعلته هو ما يمليه مجرد الحس السليم، اي مشاركة الشركات الاجنبية في اطار ما يسمى نظلم تقاسم الانتاج ( Production Sharing Agreement)، الذي يختلف عن نظام الامتيازات التي كانت سائدة في الدول المستعمرة او النامية بميزتين اساسيتين هما : اولا، كل ما يتم اكتشافه من هيدروكربونات هو ملك للدولة التي تتقاسمه مع متعهد او شريك آخر، شرط ان تنتقل ملكية الشريك لحصته من الانتاج بعد خروجها من الآبار. وثانيا، يتحمل الشريك الاجنبي كل مخاطر الاستكشاف والتنقيب، ويحتفظ الطرف الوطني بحق الدخول كشريك في حال تم التوصل الى اكتشاف تجاري، وبنسبة تحدد في اتفاقية الانتاج . في هذه الحاالة فقط يسدد الطرف الوطني حصته من النفقات السابقة تدريجيا انطلاقا من بدء تدفقات ايرادات الانتاج، كما يسدد فيما بعد حصته من تكاليف الانتاج. ومن الغريب ان فاروق القاسم يقع في عدد من المغالطات حول موضوع المشاركة هذا وحول انشاء شركة وطنية وغير ذلك من النقاط الاسااسية التالية.
1 - الحوار والشفافية :
يؤكد السبد القاسم في عنوان مقاله على ان ما يكتبه يهدف "لتسيير الحوار في قطاع البترول" كما يشير في صلب المقال الى ضرورة "تشجيع الحوار ببن المواطنين والسلطات والشركات العاملة". وهذه كلمات ممتازة بحد ذاتها، كما ان الحوار حول هذا الموضوع في لبنان مطلب نادى به الكثيرون قبل المهندس المذكور، ودون جدوى كما يعلم. مما يطرح التساؤل: لماذا انتظر سنوات طويلة قبل ان يرفع صوته ليتكلم عن ضرورة الحوار، وهل انه يا ترى نصح المسؤولين الذين تعاطى معهم ولا يزال بإطلاق مثل هذا الحوار؟ كما انه لا يجهل ان كلمة حوار تصبح كلمة جوفاء في ظل السرية التامة التي اتسمت بها مسيرة البترول والغاز في لبنان، والتي تمثلت بشكل خاص بالتعتيم المطلق، مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، على نصوص المرسومين الشهيرين اللذين يشكلان جوهر التشريع البترولي الحالي. فعلى ماذا يمكن ان يتحاور اللبنانيون في ظل هذا التعتيم التام حول التدابير التي سبقت الامر الواقع الذي فرضه اقرار هذين المرسومين، خاصة المرسوم 43/2017 الذي يتضمن كل التفاصيل التقنية والمالية والاقتصادية والتنظيمية والبيئية الخاصة باستثمار هذه الثروة ؟…
هذا مع العلم ان الشفافية كانت ولا تزال ميزة اساسية من الميزات التي اتسمت بها سياسة النرويج البترولية منذ اواخر الستيينيات من القرن الماضي، من خلال حوار وطني عام وسيل من الدراسات والتقارير كان للمجلس النيابي (Stortinget) دور محوري فيها، وكانت درعا واقيا ضد الأخطاء والفساد. اما في لبنان فقد اقتصر دور المجلس النيابي على اصدار القانون البترولي 132/2010، بما يتضمنه من مبادئ اساسية عامة، قبل ان يسرق بعض الموظفين صلاحيات السلطة التشريعية ويضعوا مراسيم تطبيقية، خاصة منها المرسوم 43/2017 الذي يتضمن عمليا كل الاحكام المتعلقة باتفاقيات الاستكشاف والانتاج ، والتي تناقض المبادى الاساسية التي نص عليها القانون. ذلك كله دون علم ودون استشارة السلطة التشريعية المختصة، وتحت غطاء سرية لا تقل عن سرية اخطر اسرار امن الدولة. سرية قال عنها رئيس اللجنة البرلمانية للأشغال والنقل والطاقة، النائب محمد قباني، في ايلول 2016، انها "معيبة ومخجلة"، قبل ان يضيف :"ان اسوأ ما تقوم عليه مسيرة البترول والغازهوالسرية المريبة" الى درجة ان اعضاء المجلس النيابي انفسهم لم يتمكنوا حتى من الاطلاع على مضمون مشاريع مراسيم تطبيقية لقانون قاموا بصياغته ونشره!... وطالما ان السبد القاسم هو من انصار الحوار والداعين اليه، فهل انه كان موافقا على هكذا وضع، او هل انه يعتبر ان هذه التصرفات لا تتعارص مع ما حصل في النرويج؟
2 - مشاركة الدولة وتزوير القانون البترولي :
في طليعة ما سمي "الوصايا العشر" التي نص عليها القانون النرويجي عام 1971 كأساس لسياسة البلاد النفطية، تبرز في المقام الاول الوصية التي تنص على انه "يجب على الدولة ان تشارك على كل المستويات اللازمة وان تساهم في تنسيق مصالح النرويج لجهة تطوير صناعة نفطية متكاملة على الصعيدين الوطني والدولي".
وقد جاءت خطوة النرويج هذه حينذاك في اطاراتجاه دولي عام كان قد بدأ في اندونيسيا عام 1965 عندما عقدت اولى اتفاقيات مشاركة الدولة وتقاسم الانتاج مع الشركات الاجنبية، ثم تم تعزيز وتعميم هذا الاتجاه في حزيران 1968 عندما اوصت منظمة الدول المصدرة للبترول، اوبيك، اعضاءها بتبني مبدأ المشاركة عوضا عن الامتيازات القديمة. ويفسر السيد القاسم في كتابه ان احدى الوسائل التي لجأت اليها النرويج لإقناع الشركات الاجنبية بالقبول بمبدأ المشاركة كانت الاغراء برخص تغطي رقعا تعتبر واعدة اكثر من غيرها من حيث امكانية العثور على مكامن بترولية او غازبة. كما يفسر في نفس الكتاب ، في الصفحة43 "ان النرويج كانت تضغط على الشركات لقبول مبدأ المشاركة الوطنية، في حين ان الشركات نفسها كانت تفاوض بضراوة مع دول اوبيك من اجل تحاشي هذا المبدأ". الا ان ضغوط الشركات العالمية لم تمنع النرو يج من ممارسة نظام تقاسم الانتاج على نطاق واسع، تماما كما فعلت العشرات من الدول المنتجة الاخرى.
لذلك كان من الطبيعي ان يتبنى القانون البترولي اللبناني رقم 132 عام 2010 نفس نظام تقاسم الانتاج الذي كان قد انتشر خلال الخمسة واربعين عاما السابقة في كل انحاء العالم، الى ان اصبح النظام البترولي الاكثر رواجا في اكثر من 70 دولة. كان ذلك طبيعيا الى ان تأتي مفاجأة المرسوم التطبيقي 43/2017 لتقلب الامور رأسا على عقب عبر المادة رقم 5 التي تنص بكل بساطة على انه "لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الاولى" !... بضع كلمات فقط، وضعها العاملون في الظل، كانت بمثابة عبوة ناسفة لمبدأ جوهري من مبادئ القانون البترولي ولشل الدولة ومنعها من القيام بدورها المحوري في الانشطة البترولية، بغية شق الطريق امام مصالح خاصة كي تحل محلها. وذلك خاصة عبر ما سمي "شراكة تجارية غير مندمجة" تضم ثلاثة اصحاب حقوق على الأقل، منهم شركة عالمية مشغلة (Operator) بحصة 35% على الأقل وشركتان غير مشغلتان (Non-operators) او أكثر، لا تقل حصة كل واحدة منها عن 10%!... التركيبة الصبيانية، يمكن ان تفرض على الشركة المشغلة مشاركة شركة شركتين غير مشغلتين او أكثر، بحصة 10% على الأقل للواحدة ( بما فيها ما يعادلها من حقوق الملكية على البترول والغاز المكتشف) . وذلك بدلا من شركة نفط وطنية تمثل كل اللبنانيين وقضى المرسوم بطردها!... اضف الى ذلك ان هذا التنكر للقانون ولمبدأ مشاركة الدولة جعل من لبنان البلد الوحيد الذي يمشي بعكس الاتجاه العام في صناعة البترول، وبعكس المنطق، وبعكس مصالحه الوطنية.
ومن اللافت انه لم يتجرأ احد من المسؤولين او غير المسؤولين في لبنان، وفي طليعتهم موظفو وزارة الطاقة واعضاء هيئة ادارة قطاع البترول، على تبرير او مجرد تفسير هذا التزوير المذهل لواحد من المبادئ الجوهرية التي قام عليها القانون البترولي، ولركيزة اساسية من ركائز نظام تقاسم الانتاج . كانت هذه هي الحال الى ان انبرى السيد فاروق القاسم ليفسر ويعلل ويبرر، بكل بساطة ولاول مرة، اسباب هذا التزوير بحجج واهية تنطوي على مغالطات ليس اقلها انه: “يقتضي على الدولة، في حالة مشاركتها في الانشطة البترولية (State Participation) ان تسدد حصتها من الاستثمار وتتحمل مخاطر فقدان هذه المبالغ في حال الفشل”. (كذا بالحرف الواحد!)….
ومن الصعب التصور ان المهندس المذكور يجهل ان ما يقوله مخالف كليا للواقع، وان عقود تقاسم الانتاج التي تمت في عشرات الدول (بما فيها النرويج) تنص على “تحميل” الشريك الاجنبي مخاطر ونفقات التنقيب (Carried interest) وان الشريك الوطني لا يدفع دولارا واحدا في حال الفشل، ولا يسدد حصته في نفقات التنقيب، ثم في نفقات الانتاج، الا عندما يبدأ تدفق ايرادات الانتاج. وهذا كما هو معروف شرط اساسي من شروط نظام تقاسم الانتاج.
وفي حين ان فاروق القاسم يحاول في تبرير ما جاء في المادة 5 من المرسوم43/2017 حول عزوف الدولة عن المشاركة، ومن ثمة عن ممارسة نظام تقاسم الانتاج، فمن المدهش ان ينكر ويتجاهل في الفقرة التالية ان تكون النروبج قد مارست هذا النظام عندما يؤكد "ان التجربة النرويجية كانت ولا تزال مبنية على نظام الامتياز بعد تحويرات وتطويرات مهمة…حتى نهاية القرن الماضي”. الا انه ينسى او يتناسى ما حصل “قبل نهاية القرن الماضي" وانه قد سبق لهذا البلد واستعان بنظام تقاسم الانتاج ( Production Sharing Agreement) ( في المراحل الاولى عندما كان في وضع قريب الى وضع لبنان في الظروف الراهنة!..
هذا ما يفسره القاسم مطولا في كتابه عن النموذج النرويجي حيث يروي بالتفصيل في الصفحة 42 وما يليها كيف تصاعدت القناعة بضرورة مشاركة الدولة في "عمليات النفط" ويشير الى الرسالة التي بعث بها عام 1968 ما كان يسمى مجلس النفط آنذاك الى وزارة الصناعة النرويجية للفت انتباهها الى ضرورة هذه المشاركة. كما يشير في الصفحة44 الى تقرير نفس الوزارة الى البرلمان حيث جاء : "ترتئي الوزارة ان مشاركة الحكوكة ستكون امرا ضروريا على الأقل من اجل الحصول على فرصة للتحكم والتهيؤ لاعمال التنقيب واستثمار النفط على الساحل القاري النروبجي بشكل اكثر ملاءمة وفائدة للمصلحة النرويجية". الضرورة ذاتها للمشاركة كررتها لجنة خاصة عام 1969 كوسيلة لا بد منها لتطوير الفعاليات والخبرات الوطنية اللازمة
اما الوسائل التي لجأت اليها النرويج للتغلب على افتقارها في تلك الفترة للتجربة وللقدرات المالية والتقنية اللازمة للمشاركة في الانشطة البترولية، فهي الوسائل ذاتها التي لجأت اليها عشرات الدول الاخرى عبر المشاركة في اطار نظام تقاسم الانتاج. هذا ما كتبه فاروق القاسم في كتابه المذكوراعلاه في الصفحة 44 حيث يشير الى الصعوبات الاولى التي اصطدم بها مبدأ المشاركة من قبل الشركات التي عاد بعضها وقبل بهذا المبدأ على اساس مشاركة حكومية بنسبة وعلى اساس "حمل" الحصة الحكومية. ثم يعود القاسم الى هذا الموضوع في الصفحة 51 من كتابه حيث يروي بالتفصيل انه بعد فترة اولية صعبة: "بدأت الشركة الوطنية ستاتويل تشارك في كل الرقع بنسبة لم تقل عن 50% من الحصص. بالاضافة الى ذلك كان بامكان ستاتويل ان ترفع حصتها في حالة اعلان اكتشاف تجاري الى ما بين 70 % و80% وفقا لحجم الاكتشاف. وفي كل الاتفاقيت كانت ستاتويل في ذلك الوقت محمولة (Carried) من قبل الشركات الاخرى طوال فترة التنقيب. ويعني هذا ان الشركات الاخرى كانت تدفع حصة ستاتويل من تكاليف التنقيب على امل استرجاعها هذه المبالغ في حالة تحقيق الانتاج".
هذا التناقض الصارخ بين ما حصل فعلا في النرويج وما كتبه فاروق القاسم في كتابه، من جهة، وما كتبه في جريدة "الاخبار" من جهة ثانية، يشكل مغالطة لا يمكن تفسيرها لا بسهو ولا بضعف الذاكرة ولا بعدم القدرة على التمييز بين مشاركة الدولة وعدم مشاركتها في نظر المستشار المذكور. اخيرا لا آخرا، يبقى السؤال الكبير مطروحا حول رأي المستشار القاسم في تجاهل المرسوم 43/2017 لمبدأ المشاركة الوطنية الذي نص عليه القانون. هل انه يا ترى قام بواجبه كمستشار ولفت انتباه من اسدى اليهم النصائح من المسؤولين اللبنانيين الى ان ما قاموا به هو تزوير من اخطر ما يكون للقانون وللدستور ؟…بانتظارجوابه، من اللافت انه يناقض نفسه ويناقض الواقع عندما يحاول تبرير هذا التزوير. كما انه يتحمل مسؤولية جسيمة جراء اسهامه في تشويش الافكار وتضليل من عمل بآرائه ونصائحه !
واذا افترضنا ان فاروق القاسم قد اعتبر فعلا آنذاك ان المشاركة لم تكن في مصلحة لبنان، فهل يا ترى انه قد اعتبر ان تعديل القانون، دون الرجوع الى المجلس النيابي، هو من صلاحياته او من صلاحيات اي مستشار او اي موظف آخر؟!
ومن نتائج هذا التزوير ان المسؤولين عن هذا القطاع لم يتمكنوا حتى اليوم من الاتفاق على التسمية المناسبة لنظام الاستثمار الذي ادى اليه التزوير المذكور. ففي حين يصر وزير الطاقة السابق، دون ان يرف له جفن، على تسميته نظام تقاسم الانتاج (على الرغم من طرد الدولة وتعطيل مشاركة اي شريك وطني وفق المادة 5 من المرسوم !) يرى البعض انه نظام تقاسم ارباح فقط ، في حين ان رئيس هيئة ادارة قطاع البترول قد اعتبر في مقابلة نشرت في جريدة “النهار” بتاريخ 17 نيسان 2015 ان النظلم المطبق في لبنان يقع "ببن الامتيازات وتقاسم الارباح"… والحقيقة هي ان كل المسؤولين يخشون الاعتراف بان طرد الدولة من الانشطة البترولية، عبر المرسوم المذكور، كان لا اكثر ولا اقل من تزوبر للقانون. تزوير اقل ما يمكن ان يوصف به انه اجرام لا يغتفر بحق اللبنانيين..
3 ـ انشاء شركة نفط وطنية :
وصية اخرى على جانب كبير من الاهمية بين العشر وصايا التي قامت عليها سياسة النرويج النفطية كانت الوصية رقم 8 ونصها الحرفي : " سيتم انشاء شركة نفط وطنية تؤمن مصالح الحكومة بالتعاون، بالوسائل الملائمة، مع الجهات الوطنية والاجنبية المختصة". وقد تم فعلا وعلى الفورانشاء الشركة الوطنية ستاتويل عام 1972 وباشرت عملها الى جانب الادارة العامة للبترول، كما سبق وفعلت شركات بترولية وطنية، منذ مطلع القرن العشرين، في كافة بلدان العالم، البلدان الصناعية في اوروبا الغربية اولا ثم في الارجنتين عام 1922 والمكسيك عام 1938، ثم في كل الدول الاعضاء في منظمة اوبيك وغيرها، انطلاقا من عام 1965، اي سبع سنوات قبل انشاء الشركة النرويجية ستاتويل.
اما لبنان فما زال حتى الآن البلد شبه الوحيد في العالم، والبلد العربي الوحيد الذي لم ينشئ بعد شركة بترول وطنية، في حين ان البلدان العربية الاخرى، اضافة الى اقليم كردستان العراقي، وبما فيها البلدان غير المصدرة للبترول او الغاز كالمغرب والاردن، اصبح في كل منها ليس شركة واحدة، بل عدة شركات وطنية تعنى بمختلف مراحل هذه الصناعة، من التنقيب والانتاج الى التوزيع، مرورا بالتكرير والنقل والبتروكيمياء، فضلا عن تدريب الكوادر الوطنية ومراكز التعليم والبحث العلمي. كما ان هذه الشركات البترولية الوطنية قد اصبحت العامود الفقري للاقتصاد الوطني في الدول المعنية كالمملكة السعودية وسائر بلدان الخليج العربي، والجزائر وايران وماليزيا، الخ…
هذا مع العلم ان عشرات المهندسين والجيولوجيين والاقتصاديين اللبنانيين ، اضافة الى اختصاصات اخرى، يعملون منذ سنوات طويلة ، ويحتلون في الكثير من الحالات مراكز عالية، في شركات النفط الوطنية وغيرها من كبريات الشركات البترولية العالمية. ومن الجدير بالذكر ان هذه الطاقة البشرية التي يتمتع بها لبنان تفوق باضعاف ما كانت تملكه النرويج قبل تأسيس ستاتويل عام 1972 ، عندما كان عدد الموظفين عندها في هذا القطاع لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، وعندما كان اهم نشاط اقتصادي في النرويج هو الملاحة وصيد الاسماك، كما يذكر فاروق القاسم في كتابه. هذا النقص الهائل في الطاقات الوطنية كان اصلا سبب إقدام السلطات النرويجية على تعيين مهندس جيولوجي عراقي شاب مديرا للموارد البترولية في عام 1968 .
لذلك يبقى السؤال مطروحا: لماذا لم يلجأ المسؤولون عن هذا القطاع في لبنان للاستعانة بالخبرات اللبنانية المتوافرة ف لتاسيس شركة بترول وغاز وطنية ؟ ولماذا ما يزال ابرز مستشاري هؤلاء المسؤولين يصر على ضرورة عدم انشاء هذه الشركة، كما يصر على الاستمرار في تزوير القانون وعدم مشاركة الدولة في الانشطة البترولية ؟ ذلك في حين ان المستشار المذكور يعرف تمام المعرفة، كما اشار الى ذلك في كتابه، ان هذه المشاركة كانت الشرط والسبب اللذين لا بد منهما لانجازما انجزته النرويج ! كما انه يعرف كما يعرف غيره انه، لولا هذه المشاركة الحكومبة، لكان من المستحيل ان تكتسب ستاتويل التجربة والخبرات اللازمة كي تبدأ عام 1981 بتولي دور ومسؤولية “المشغل” (Operator). وبما انه يعرف ويعي ذلك، فلماذا يستمر في دفع لبنان باتجاه معاكس لما حصل في النرويج والعديد من البلدان الاخرى؟ ولماذا يتعامى معظم المسؤولين اللبنانيين عن هذا القطاع عن هذه البديهيات ؟….
ومن حسن الحظ انه بعد ضياع سنوات طويلة وفرص ثمينة، قدم بعض النواب الى المجلس النيابي، في اواخر 2017، اربعة مشاريع قوانين بترولية، منها مشروع انشاء شركة بترول وطنبة لبنانبة، علاوة على مشاريع انشاء صندوق سيادي ومديرية تعنى بالاصول البترولية واصدار قانون خاص باستثمارالموارد البترولية على اليابسة. وليس من باب الصدف ان ترتفع فجأة اصوات لم يسمعها احد من قبل لتنادي، تحت ستار الشفافية، بتجميد هذه المشاريع الاربعة، بحجة ان ثمة ضرورة لاعطاء “المجتمع المدني” الوقت الكافي لدراسة هذه المشاريع والمشاركة في صياغتها.
ومن العجيب ان ايا من هذه الاصوات لم يرتفع للمطالبة بشفافية المراسيم التي ظلت سرية طوال ثلاثة اعوام قبل اقرارها على عجل في مطلع 2017، وفي اول اجتماع للوزارة الجديدة، عندما أعطي الوزراء الجدد 48 ساعة لقراءتها ودراستها وتمحيصها والموافقة عليها .اما الذين استيقظوا ليطالبوا اليوم بالشفافية فهم نفس الذين كانوا يطالبون بالاسراع في اقرار مراسيم لا يعرفون مضمونها. هذا مع العلم ان مشاريع القوانين الاربعة الحالية ليست سرية، وبامكان اي كان ان يطلع عليها ويعطي رأيه فيها.
4 - متى المشاركةً ؟ ومتى انشاء الشركة الوطنية ؟
من اللافت ان المهندس فاروق القاسم قد اختارهذا الوقت بالذات ليخرج من الظل وينضم لجوقة المطبلين والمزمرين لصرف الانتباه عن موضوع المشاركة ولتجميد مشاريع القوانين الجديدة، وعلى رأسها انشاء شركة نفط وطنية. اما الحجة التي يقدمها في هذا السياق، فهي انه لا بد لبلد لم يتأكد بعد بشكل ثابت من وجود النفط والغاز تحت اراضيه او تحت مياهه، من ان يفسح المجال لشركات اجنبية للقيام بالتنقيب المطلوب وتحقيق اكتشافات تجارية واعدة. اما ما لا يقوله المهندس المذكور، فهو ان حق الخيار ومبدأ مشاركة الدولة، كما والحصة التي يحق لها ان تختارها، فهي امور يجب ان تثبت صراحة عند توقيع الاتفاقية مع الطرف الاجنبي، وليس طبعا بعد ذلك.
ومن المفاجآت الغريبة قوله حرفيا : "عند التأكد من وجود احتياطيات كافية لإدامة انتاج النفط او الغاز لمدة تزيد عن العقدين، لا بد للبلد من النظر مليا في الفوائد والتكاليف من تأسيس شركة وطنية للبترول. اما النظر في هذا الخيار، قبل التأكد من استدامة اعمال الشركة، فقد يؤدي الى انشاء مؤسسة او اكثر من دون مستقبل مضمون، اضافة الى ما يتبع ذلك من تكاليف باهظة.... ويكفي هنا ان نتصور عشرات الموظفين الذين يتساءلون عن اولويات اعمالهم وجدوى وجودهم كشركة..." ولا شك انه لا يخفى على مستشار كالسيد القاسم ان عدد الموظفين، ونفقات واولويات شركة نفط وطنية تحددها، شأنها في ذلك شأن اي مؤسسة حكومية او خاصة اخرى، الحوكمة السليمة والاهداف المتوخاة.
بانتظار ذلك، فان عشرات الموظفين العاطلين عن العمل الذين "يتصورهم" المستشار المذكور فهم قابعون في مخيلته فقط. اما شرط ضرورة اكتشاف احتياطيات تكفي للانتاج لمدة اكثر من عقدين من الزمن، فهو بدعة جديدة لا سابقة لها في علم الاقتصاد البترولي، ولا في تجارب الدول الاخرى. بدعة لا تتعدى كونها شرطا تعجيزيا لا يستند الى اي منطق اقتصادي ولا تفسير له سوى التهويل على لبنان وعلى غيره من الدول النامية لمنعها من ممارسة حقها ومسؤولياتها في استثمار ثرواتها. بدعة جديدة اخرى قوله حرفيا : " الحسابات الواقعية في العديد من البلدان ان عملية تمويل شركة وطنية تعمل في قطاع التنقيب والاستخراج بحرا قد تسببت في تأجيل جزء كبير من عوائد النفط لما يقارب 12 عاما” كلمات لا يدعمها اي برهان او اي منطق !
بعد كل هذه الشروط التعجيزية لانشاء شركة وطنية يمكن ان تشارك في العمليات البترولية، يتكرم القاسم بالتلويح الى احتمال دخول، في المستقبل غير المنظور، هذه الشركة كطرف مع المتعهد الاجنبي بحصة تتراوح "بين 5% و20% " فقط لا غير . فكيف ومن اين أتى بمثل هذه النسب التعيسة مقارنة بحصص تتراوح بين 40 و80% في سائر بلدان العالم؟
5 - جدل عقيم حول تاريخ مشاركة الدولة وانشاء شركة وطنية :
بعد هدر السنين في المماطلة والممانعة، وعلى الرغم من التفاوص مع عشرات الشركات الاجنبية لمنحها حقوق استكشاف وانتاج ، بإستثناء شركة نفط وطنية ( ! ) ما زال الجدل العقيم دائرا حول تاريخ انشاء هذه الشركة، ومبدأ وتاريخ مشاركتها في الانشطة البترولية، وما زال عدد من المسؤولين يردد ما يقوله السيد فاروق القاسم عن ضرورة "التأكد من وجود النفط اولا!". مع العلم ان المستشار المذكورلا يجهل ان شركة ستاتويل بدأت عملها عام 1972 في مناطق من بحر الشمال تفصلها مسافات شاسعة عن حقل ايكوفيسك الذي اكتشفته فيليبس، وان مساحة الجرف القاري النرويجي لا تقل عن 2,140,000 كلم مربع، اي ما يقارب 100 مرة مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان، التي تبدو كبحيرة صغيرة مقارنة بالقسم النرويجي من بحر الشمال. الأهم من ذلك انه حصل حتى الان اكتشاف ما لا يقل عن 14 حقل غاز في اسرائيل وغزة وقبرص، اي على "مرمى حجر" من المياه اللبنانبة، منها حقلان ملاصقان للجزء الذي يحاول العدو الاسرائيلي اغتصابه من المياه التابعة للبنان. لا بل ان واحدا منهما يمتد على الأرجح الى ما تحت المياه اللبنانبة. يضاف الى ذلك اكتشاف اكبر حقل غاز في المتوسط عام 2015 قبالة دلتا النيل.
هذا الواقع يملي اربع ملاحظات ، اولها انه لا معنى اصلا للكلام عن ضرورة انتظار تحقيق اكتشا ف تجاري قبل انشاء شركة نفط وطنية تدخل كشريك مع متعهد اجنبي، قبل الغاء المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي تحول صراحة دون هذه المشاركة. الملاحظة الثانية هي ان كثافة وسرعة الاكتشافات التي تحققت حتى الآن بالقرب من المياه اللبنانية هي اكبر بكثير من تلك التي تمت حيث بدأت ستاتويل عملها. اما الملاحظة الثالثة فهي ان الحجج التي يقدمها القاسم واتباعه ضد الاسراع في تأسيس شركة لبنانية ودخولها كشريك مع المتعهد الاجنبي هي عملية تمويه لابعاد الدولة عن الانشطة البترولية . الملاحظة الرابعة هي انه اذا سلمنا جدلا بانه لسبب او لآخر لا بد من انتظار اكتشااف واعد في مكان ما قبل انشاء شركة وطنية ودخول في شراكة مع الطرف الاجنبي، فليكن ذلك! في هذه الحالة يكفي زيادة بضع كلمات في الاتفاقية مع الشركة الاجنبية تنص على ان الدولة تحتفظ بحق الدخول كشريك، بنسبة معينة، بعد هذا الاكتشاف. كلمات لا تكلف الدولة دولارا واحدا وتترك لها حرية الخيار في المستقبل. اما اذا لم يحصل ذلك، فهذا يعني ان الدولة تخسر تلقائيا كل امكانية ان تصبح شريكا، كما تخسر حقوق الملكية على حصتها من البترول/الغاز الذي يتم اكتشافه، والتي قد تبلغ المليارات او عشرات المليارات من الدولارات.
6 - شروط مالية من الأسوأ في العالم :
اضافة الى الخسائر الناجمة عن التخلي عن حصتها من الانتاج، يتكبد لبنان خسائر اخرى جراء تدني كل عناصر حصته من ارباح الشركات العاملة، والتي حددها المرسوم 43/2017 ، من جهة، والقانون الخاص بالاحكام الضريبية على الانشطة البترولية، من جهة ثانية. هذه العناصر هي : “رسوم المساحات” التي تكاد تكون رمزية في لبنان، وإتاوة “Royalty” تتراوح بين 5% و 12% على البترول حسب مستويات الانتاج، و4% فقط لا غير على الغاز، مقابل 12,5% في اسرائيل ومصر وقبرص والنرويج ومعظم البلدان الاخرى، وحتى 18.75% في بعض مناطق خليج المكسيك. كذلك الامر بالنسبة لسقف استرداد النفقات Cost stop)) الذي يحدده المرسوم ب65% سنويا مقابل حد اقصى لا يتجاوز 50% في العالم. اخيرا لا يأتي المرسوم على الاطلاق على ذكر اي من العلاوات Bonus)) المتعارف عليها، والتي يدفعها المتعهد عند توقيع الاتفاق، او عند بلوغ الانتاج مستويات معينة. اما الضريبة على ارباح الشركات فلا تتجاوز 20% مقابل 26% كمعدل عالمي.
انطلاقا من هذه العناصر، يتبين ان مجموع حصة الدولة من الارباح خلال السنوات الاولى من الانتاج لا يتجاوز 47% في افضل الحالات، وهو مستوى ادنى بكثير من معدلات تتراوح بين 65% و 85% تحصل عليها الدول المنتجة التي تتطبق مئات عقود تقاسم الانتاج في العالم. مع الاشارة الى ان حصة 47% التي يمكن ان يأملها لبنان تبقى نظرية، اي مشروطة بتطابقها مع الارقام الحقيقية التي لا يعرفها سوى الشركات العاملة التي تتحكم بكل التدفقات المالية، سواء من جهة النفقات ام من جهة الايرادات. اما الدولة، وبحكم إبعادها عن المشاركة، فقد اصبحت ك"الأطرش في الزفة“ !... لا بل ان حصة لبنان تبقى حتى ادنى بكثير مما كانت تجنيه الدول المصدرة في القرن الماضي في اطار الامتيازات القديمة، والتي كانت تتكون من إتاوة 12.5% من كامل قيمة الانتاج، تضاف اليها ضريبة 50% على الارباح. هذه الفروقات الجسيمة تترجم عمليا بخسارة المليارات من الدولارات.
خلاصة
هذه الخسائر الفادحة وهذه الانحرافات تطرح اسئلة جوهرية حول المسؤولية الجسيمة التي يتحملها فاروق القاسم وغيره من المستشارين النرويجيين، اضافة بالطبع الى المسؤولين اللبنانيين عن هذا القطاع. اسئلة يمكن ايجازها كما يلي :
اولا : باسم من يتكلم ولحساب من يعمل فاروق القاسم؟ باسمه الخاص وبصفته مستشارا بتروليا مستقلا، اوباسم النرويج وبصفته مسؤولا حكوميا سابقا في هذا البلد ؟
ثانيا : ما هو موقف السلطات النرويجية المختصة من هذا الموضوع، ومن التناقضات والمغالطات التي يقع فيها القاسم بين ما يقوله للبنانيين، من جهة، وبين ما حصل فعلا في النرويج وما جاء في كتابه "النموذج النرويجي" من جهة اخرى ؟ وهل ان هذه السلطات تتابع عن كثب عمله ونصائحه في لبنان؟ وان كان الجواب نعم، فهل انها موافقة على ذلك ؟
ثالثا : حتى اذا سلمنا جدلا ان بعض اعضاء هيئة قطاع البترول لم يكونوا يتمتعون عند تعيينهم قبل اكثر من ستة اعوام بالمؤهلات والخبرة اللازمة، فهذا لا يكفي لتفسير سكوتهم عن مغالطات فاروق القاسم. كما انه لم ولا يمكن ان يمنعهم من التساؤل لماذا لم يفكر اي موظف في النرويج بتزوير او تشويه كلمة واحدة من القانون البترولي، او بالموافقة على التأهيل المسبق لشركة وهمية اسسها رئيس غرفة تجارة اوسلو للحصول على حقوق انتاج البترول والغاز في بحر الشمال، او بأي من الانحرافات الاخرى التي تعاموا عنها والتي ليس لها مثيل في اي بلد من بلدان العالم الاكثر فسادا.
بانتظار الاجوبة على هذه التساؤلات ، سيظل التغني بما يسمى “النموذج النرويجي” في لبنان اقرب ما يكون الى المتاجرة بالنرويج ونموذجها، وعملية غش وتضليل تفوم على تسخير مصداقية وحسن سمعة سياسة النرويج البترولية في لخدمة ممارسات لا علاقة لها لا بالنرويج ولا بمصالح لبنان الوطنية. لذلك فالخوف كل الخوف، بعد كل ما حصل من انحرافات كارثية، ان يتحول ما يتأمله اللبنانيون من ثروتهم الموعودة الى سراب، وان تصبح صناعة البترول والغاز الناشئة بؤرة جديدة مرعبة للنهب والفساد اكبر من مجموع بؤر الكهرباء والمياه والمواصلات والنفايات الخ، التي سبقتها….