منذ عدةِ سنوات وبمبادرةٍ شبابية خيّرة أصبح الأول من تشرين الأول من كل عام "يوماً للدبس" في بلدة راشيا، وفيه يلتقي الفلاحون بجنى أرضهم وبما صنعت أيديهم مع مئاتٍ وقل آلافٍ من الناس القاصدين شراء مونةٍ بلديةٍ خالصة وصحيّة، لا يدخلها الغش ولا الفساد، مشغولة بصدق النوايا وببركة المحبّة.
عندما تُطلّ عليهم تستقبلك وجوههم السمراء الانيسة التي لفحتها شمس الحقول فأحالتها بسمة فرح، وتصافحك أياديهم الخشنة المجبولة بتراب الأرض قائلة لك هذا الرزق من نِعَمِ المولى، مرددين كلمات "أهلا وسهلا" انت في بيتك وبين أهلك.
بصعوبة تشق طريقك من باب السوق -الأثري المرصوف بالحجارة- حتى نهايته بسبب زحمة الزوار القادمين من كافة المناطق اللبنانية، وكأنك في مهرجان الاستقلال تحتفل في قلعته بولادة الوطن وتتنفس نسائم الحرية، وعندما يداهمك التعب تجلس على مقعد حجري منحوت من صخور جبل الشيخ الراقد على كتف السهل يحرسه من ظلم الغزاة والتاريخ ويروي عطشه بالماء الزلال.
وبالعودة الى الدبس: وهو عصير عناقيد العنب الذهبية المتلألئة يُصفّى بتراب "الحوّارة" الأبيض ومن ثم يُغلى على النار حتى الاستواء دون ان يدخُلُه اي مكونٍ آخر، ويُترك في الجرن الحجري حتى يبرد، ويمكن استعماله كمُحلّى أو كعصير.
الدبس بحلاه ومنافعه الجمّة أضحى موحِّداً للوطن، في وادي التيم وادي الكرم والمحبة، وادي الخير والبركة، وادي أهله الطيبين المضيافين، منذ الف عام اعتنقوا التوحيد وعملوا بتعاليمه وآدابه، فكانوا صادقي اللسان طاهري القلب والجنان، حافظي الأخوان، مكرِميّ الضيف، مدافعين عن الحق وناصري المظلوم والفقير، أهل عزّة ومروءة، العقل هاديهم، الأخلاق والتسامح مشربهم، البساطة والعيش الكريم مسلكهم.
بوركت تلك الأيادي الحافظة للأرض، وبوركت تلك الأرض المعطاءة الخيّرة الحاضنة لأهلها، وقد صدق الفيلسوف الروسي سوكولوفسكي حين قال " ان الحضارات والشعوب التي تفقد إرتباطها بالأرض لا تلبث أن تذوي وتزول".
وفي الختام يطيب لي القول انه، على هذه الأرض ولدنا وفيها ترعرعنا وتنشقنا هواءها العليل وفيها نموت كراماً أعزاء.
بارك الله بكل من ساهم وسعى ويسعى لإبراز جمالية منطقة راشيا وطيب أهلها وصفاء سريرتهم، وحتى العام القادم لكم الف تحيّة وتقدير.