تظهر على سطح الأحداث المؤلمة التي تحصل في لبنان مواقف متطرفة في كل الاتجاهات، خصوصا منها التي تتعلق بملف انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإنهاء الفراغ المستمر في الموقع منذ ما يقارب العام. وتدلي الأطراف المتقابلة برأيها في الموضوع، وكل منها يحمل الطرف الآخر مسؤولية التعطيل، ويتقاذفون الكرة من عليائهم، بينما الهيكل مهدد بالسقوط على الجميع، ورؤى الفريق السيادي تقود نحو إحداث فرز أو فيدرالية ليس لها مقومات عيش، وتشدد فريق الممانعة سيؤدي إلى اضمحلال الدولة وتحويل لبنان إلى ساحة مستباحة، وقد يصبح أهله أقلية أمام تزايد عدد النازحين إليه، ومن جراء هجرة الكثرة من شبابه.
منطق قواعد اللعبة الديموقراطية يعطي أحقية وأضحى لصالح القوى «السيادية» أو المعارضة الرافضة لمنطق كتل نواب الممانعة التي تتمسك بمرشحها الرئاسي حتى اللحظة، لأن الفريق الأول قام بتبديل خياراته أكثر من مرة تماشيا مع قناعة بضرورة تسهيل الأمور، للحفاظ على البلد المتهالك، لأن اللبنانيين يعيشون مأساة لا توصف، يخافون على مستقبل أبنائهم، وهم مهددون بعدم الاستقرار وبالفقر والعوز، ولا يستطيعون تأمين ضروريات الحياة اللائقة بغياب الكهرباء وأحيانا المياه وفرص العمل، كما يخافون من عدم قدرتهم على دخول المستشفيات، كما لا قدرة لأغلبيتهم على توفير أقساط المدارس والجامعات لأبنائهم، بينما التحديات الوجودية والأمنية تطرق أبوابهم من كل حدب وصوب.
لكن قوة الحق الدستوري تصطدم في لبنان بحق القوة، ويتفرع عن فلسفة المنطق عناوين لها أول وليس لها آخر، لأن اللعبة الطائفية، كما المعادلات الموروثة، تسمح باستغلال الوضع بما يخدم أهداف هذا الفريق أو ذاك، بالسياسة كما بالأمن، كما في كل شيء. ويصبح القانون ـ أو الدستور ـ بهذه الحالة وجهة نظر، من دون محددات قاطعة، ولا تضبطه معايير الانتظام العام، لأن مكونات واسعة من اللبنانيين يعتبرون ما يصدر عن مرجعياتهم، هو معيار الصواب، ومنه تصدر الأحكام العادلة، وفريق آخر يبالغ في ردات الفعل، بما يشبه التسلية التي تستفيد من طرف الوقت، والحكمة القديمة تقول: ان أي خلاف يطول يكون فيه الحق على طرفي النزاع وليس على طرف واحد.
يبالغ فريق حزب الله في استفزاز أخصامه السياسيين عندما يتصرف بأريحية، بينما أخصامه خائفون منه أمنيا وسياسيا، ويعتبرونه صاحب مشروع يهدد مستقبل لبنان الذي يطمحون إليه، ومبالغته لا تصرف في أي استحقاق مصيري، وهو غير قادر على احتواء الأشواك اللبنانية اللاذعة، والحزب يعرف ذلك تماما، وأخصامه يبالغون في طريقة التعاطي مع الوضع، وهؤلاء مازالوا يعتقدون أنهم «أم الصبي» ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم.
تبين الوقائع أن هذه الرؤى تشبه الشيكات التي ليس لها رصيد، وهي لا تصرف بأي مكان، ولابد من الحوار بين الأفرقاء المعنيين باللعبة اللبنانية لتحقيق تقدم يمكن أن يفيد البلد المجروح، برغم أن الذين يرفضون الحوار قبل انتخاب الرئيس يملكون وجهة نظر منطقية ومحقة، لأن الحوار في هذه الحالة سيصبح سابقة عرفية، سيستند إليه المعطلون في المرات اللاحقة، بينما هذا الحوار لا يجري قبل انتخاب رئيس مجلس النواب، ولا قبل تسمية رئيس الحكومة الذي يفوز بأكثرية أصوات الذين يشاركون بالاستشارات النيابية. لكن أصحاب نظرية رفض الحوار، يطالبون بإجراء دورات انتخابية متتالية إلى حين فوز رئيس من المرشحين، ولو بالنصف زائد واحد من الأصوات، لكن هؤلاء يتغافلون أو يتجاهلون خطورة وصول رئيس جمهورية لا يحصل على أي صوت من نواب «المكون الشيعي»، وهو ما سبق أن حذر منه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لأنه يهدد الصيغة اللبنانية بكاملها.
يعاني لبنان من شوائب ومشكلات أكبر من حجمه، ووسط هذه المشكلات، لا يمكن المغامرة، ولابد من التواضع والاعتدال.