الديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركيّة ليست بخير. هذا على الأقل انطباع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يستعدّ للترشح لولاية رئاسيّة ثانية متجاهلاً كلّ التعليقات شبه اليوميّة التي تتناول تقدّمه في السنّ والتي يمعن منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب في الاستفادة منها بطريقة ساخرة إنّما مركّزة في محاولة للإيحاء بأنه لم يعد مؤهّلاً للعودة إلى البيت الأبيض.
وقال بايدن إن «الديموقراطيّة في خطر وهذه ليست مبالغة. إنها حقيقة بسيطة، وقد جعلتُ الدفاع عن الديموقراطيّة الأميركيّة وحمايتها القضيّة المركزيّة لرئاستي». وشنّ الرئيس الأميركي هجوماً على ترامب ومجموعته «المتطرّفة» المعروفة باسم MAGA (أي جعل أميركا عظيمة مجدّداً)، معتبراً أن كلّ سلوكياتها وأدبيّاتها ومواقفها لا تتناسب مع الدستور والثقافة الأميركيّة والديموقراطيّة والحرّيات، مذكّراً بصورة متواصلة بهجوم أنصار ترامب على مبنى الكابيتول (مقرّ الكونغرس الأميركي) في كانون الثاني 2021.
واحتدم النقاش حول مستقبل الديموقراطيّة في أميركا مع مطالبة ترامب بإعدام رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي مارك ميلي متّهماً إيّاه بالتواصل سرّاً مع الصين خلال الأشهر الأخيرة من ولايته الرئاسيّة، وقد ردّ الجنرال الأميركي بأنه يتّخذ إجراءات معيّنة للحفاظ على أمنه وسلامته، لا سيّما أنه تقاعد أمس.
ثمّة من يرى أن التراجع الأميركي (في الداخل والخارج) له العديد من الأسباب، بعضها بات يتعلّق بآليات العمل المؤسّساتي وفق الدستور الأميركي والدور المتنامي لمجموعات الضغط (اللوبي) التي وصل نفوذ البعض منها إلى درجات عميقة بحيث باتت تؤثر على مسارات العمل السياسي والحزبي إلى حدّ بعيد، وصارت تُطرح الكثير من علامات الإستفهام حول أحقيّتها في العمل بهذه الأساليب والتأثيرات السلبيّة التي تتركها على مختلف المستويات.
ويصف المفكّر الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما (مؤلّف كتاب «نهاية التاريخ» الذي نال جدلاً واسعاً في الأوساط الفكريّة الأميركيّة والعالميّة) ما يحصل في الإدارة الأميركيّة بأنه بمثابة تحوّل من نظام دقيق لتوازن السلطات وتعاونها إلى نظام «الفيتوات» المتبادل، بما عطّل في بعض الحالات آليات الحكم والمؤسّسات وحرف العمليّة السياسيّة والديموقراطيّة عن مسارها الحقيقي.
الحساسيّات التاريخيّة المفرطة في المجتمع الأميركي (والغربي والرأسمالي عموماً) تجاه دور الحكومة والسلطة التنفيذيّة والسعي الحثيث والمتواصل للحدّ من دورها وصلاحياتها، جعلت البعض يصوّر العمليّة السياسيّة في أميركا على أنها تقتصر على المحاكم والأحزاب السياسيّة في الكونغرس، بمعنى شبه الغياب التام للسلطة الثالثة أي التنفيذيّة التي يفترض أنها الناظم الأساسي لمختلف نواحي حياة المجتمع.
إضافة إلى العثرات المحلّية التي تعترض الديموقراطيّة الأميركيّة مثل دور الإعلام والمال والشركات العملاقة ومجموعات الضغط، ثمة إشكاليّات عميقة تتّصل بالسياسة الخارجيّة الأميركيّة على مدى عقود، ولا سيما عند مناداتها بالديموقراطية والحرّيات وحقوق الإنسان.
لقد دلّت التجارب على أن كلّ المواقف والأدبيّات السياسيّة الأميركيّة في هذا المجال تتحطّم عند حدود المصالح الأميركيّة (وهذا مفهوم من باب مصالح الدول ولو لم يكن مبرّراً)، بحيث إن واشنطن لم تكن تمانع التحالف مع أعتى الأنظمة الديكتاتوريّة وتتغاضى عن انتهاك حقوق الإنسان من قبل هذا النظام القمعي أو ذاك، مقابل مصالحها الخاصة.
وغنيٌ عن القول طبعاً أن الكارثة الكبرى تتمثّل في سياستها تجاه قضيّة فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي، بحيث لم تكن يوماً فريقاً محايداً بل إنها تبالغ في دعمها إسرائيل وانحيازها لها، كما أنها لا تتردّد في توفير كلّ مقوّمات التفوّق الإسرائيلي من الناحية العسكرية في الشرق الأوسط برمّته وتصرف النظر عن الإرهاب الإسرائيلي والتوسع الإستيطاني ومصادرة الأراضي وطرد السكان الأصليين من ديارهم.
لعلّ الديموقراطيّة وفق كلّ ما ورد أعلاه أصبحت بحاجة لإعادة تعريف!