لكأن شهر ايلول هو شهر الخسارات الموصوفة
ففيه غادرنا الاب طانيوس منعم
وفيه غاب العلامة هاني فحص.
وفيه ايضا غادرنا الخور أسقف سمير الحايك.
ليس من السهل التطرق الى شخصية غنية بابعادها التكوينية الانسانية والسياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والعلمية المعرفية في نطاق الفلسفة كشخصية الخور اسقف الراحل سمير الحايك.
عرفته وربطتني به صداقة شخصية امتدت اواصرها من الوالد، وهو الزائر الدائم لوالدي حيث عملا معا على ترجمة موسوعة فلسفية من الفرنسية الى العربيه، وكانت نقاشاتهما تطول وتطول لايجاد المعنى الدقيق للمصطلحات الفلسفية وكلاهما ضليع باللغتين الفرنسية والعربيه.
رحل والدي، فبقي في لا وعيي ان الخوراسقف سمير الحايك هو المرجع الصالح الموثوق الذي يركن اليه، من زمن الرجال المتعففين الذين لم يتوانوا يوما عن البذل والعطاء من دون حدود، ولا انتظار مقابل.
على الرغم من تلك الصداقة العميقة التي ربطتنا، لم أسأله يوما لماذا دخل سلك الكهنوت، وهو المتخصص في الفلسفة، ولكن ما هو مؤكد انه لم يستخدم كهنوته يوما ولم يستغله لكسب مادي من اي نوع، فحسنات القداديس ما كانت تغريه ولا "معلوم" الجناز" الذي كان يرفض تقاضيه.
عاصر وتأثر بـ "حنا يعقوب" رفيق وصديق الزعيم الراحل كمال جنبلاط، ومن بعده والدي الذي كان ايضا من مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي، حتى وجد ضالته في مباديء الزعيم الراحل كمال جنبلاط فأصبح إشتراكي الهوى بعد ان توالت زياراته الى "فرن الحطب"، في بيروت، و"المختاره"، يرفقة والدي وحنا يعقوب. وزاوج بين التعاليم المسيحية واشتراكيه كمال جنبلاط، حيث وجد من خلال دراسته للفلسفة انهما يتكاملان في سبيل رفعة الانسان وعزة نفسه وكرامته، وانطلق في رعاياه يعيش مسيحيته وفي يوميات حياته وفي المدارس التي مارس فيها تدريس مادة الفلسفة حيث علم تلاميذه ان الفلسفة لا تتناقض مع الدين، وان الدين ليس مادة تعصب وقتل بل انسانية متسامحة ومتصالحة تقبل الآخر كما هو، ولا يسع الدين الى قولبة البشر بل الى أنسنتهم وطغيان الانسانية على الانانية، وان الدين بذل وعطاء من دون انتظار مقابل، هكذا عرف الخور اسقف المسيح والمسيحية، وهكذا عاش مسيحيته في يومياته مزارعا ومدرسا وواعظا ورجل دين يترأس الصلوات الجنائزية منها والاكاليل، وناشطا اجتماعيا يتقدم المطالبين برفع الظلم عنهم من اين اتى.
عاش الخور اسقف سمير الحايك مسيحيته التي تباينت في بعض الاحيان مع ممارسات الكنيسة إلا أنه لم يواجه الكنيسة على غرار الاب طانيوس منعم، وحافظ على احترامه للهرمية الكنسية، حتى لمن هم اقل منه شأنا في مجال المعرفة، لمجرد انه تسلقوا مناصب الاسقفية، ومنهم من زامله في دراسة اللاهوت، كالبطريرك الحالي بشارة الراعي، والمطران بولس مطر، وغيرهم. إلا أنه ايضا، اوجد في ذاته تلك التسوية الذهبية، بين قناعاته الشخصية والاشتراكية، والانسانية، وبين ضرورات احترام التراتبية الكنسية، فلم يصطدم بالكنيسة ولم يلتزم التزاما اعمى بتعاليمها التي كانت له مآخذ عليها، خصوصا سلوكيات العديد من رجال الدين على اختلاف مراتبهم، من مظاهر ترف وبذخ وعدم التفات الى شؤون الرعايا.
لم تغرّه المناصب الدينية، واعتذر عن قبول منصب الاسقفية، وهو الذي يستحقه بجداره،
روى لي بعد وفاة والدي ان البطريرك الراحل نصرالله صفير، وقبل ان يتولى السدة البطريركية، توسم فيه حدة الذكاء والنباهة، فطلب منه بعد سيامته كاهنا، ان يتولى منصب امين سر البطريكية المارونية، فما كان منه إلا أن استشار والدي وحنا يعقوب، في قبول هذا المنصب، فأشارا عليه، بأن المنصب المعروض على اهميته هو وظيفة ستبعده عن الناس وهمومها، فاقتنع، واعتذر عن قبول المنصب، الذي لو قبل به حينها لكان اسقفا حتما، وربما اكثر، ولكن، لم يساوره الندم على عدم اعتلاء المناصب الاسقفية، فكان يعيش رضاه على نفسه متصالحا مع ذاته مكتفيا بما تجود عليه مهنة التعليم. وفرحا بمحبة الناس واحترامهم له، وكونه مقصدا ومرجعا يستشيرونه في صغائر امورهم وكبائرها، ويسديهم النصح المتجرد من كل غاية ومأرب.
فاتحه يوما احد الاساقفة، بترقيته الى منصب اسقف، على ان يتولى ابرشية مصر، فاعتذر، متذرعا بضرورة ملازمته والدته.
تجود الكنيسة برجال الدين على اختلاف مراتبهم، ولكن من هم من خامة وقامة الخوراسقف سمير الحايك، قلة، قد يمر وقت قبل ان تجود الكنيسة بمثله.
لعله زمن القحط الذي يضرب مجتمعنا، فكيف لا يضرب الكنيسة وهي في صلب هذا المجتمع، فحين لا نستطيع ايجاد نظراء للاخوين رحباني، وسعيد عقل وجبران خليل جبران وشبلي الشميل وفرح اطون والياس ابو شبكه وايليا ابو ماضي واليازجي واحمد فارس الشدياق ومارون عبود وسواهم من الذين صنعوا فكرة لبنان وتألقه فلا غرو في ان الكنيسة لن تستطيع ايجاد نظراء لاحبارها الكبار الذين يغيبهم الموت تباعا. ومن بينهم الخوراسقف سمير الحايك وقبله الخوري طانيوس خشان والاب طانيوس منعم وسواهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم
ابونا سمير، هكذا كنت اناديك وانت خور اسقف، اي مرتبة اعلى من مرتبة الكاهن، ولكنك لم تتوقف يوما عند مناداتي انا وسواي لك ب "ابونا" سمير، فلم تنهرنا يوما، ولم تتأثر، او اعتبرت اننا نقلل من شأن مرتبتك الكهنوتية، واظبنا على مناداتك "ابونا" سمير لاننا خبرناك ابا لكل من عرفك، مارست الابوة الدينية والدنيوية بطلب اومن دونه.
سأفتقد لقاءاتنا الاسبوعية، حاملا بيانات هيئة الطواريء الشعبية، في البترون، التي واظب على كتابتها وتوزيعها وايصالها لكل المعنيين بالبد، كي لا يتحجج احد بانه "لم يكن يعلم"،
سأفتقد فيك روح والدي الذي كان يحضر بيننا كلما التقينا،
سافتقد سؤالك لي عن كل من تغيب عن واجب اجتماعي او مطلبي او انساني، متسائلا لماذا غاب فلان ولم نعد نراه؟
سأفتقد تقريظك لي اذا ما وجدتني في واجب عزاء، شاركت فيه متأخرا بعد ذهابك.
سأفتقد في غيابك معنى لبنان الذي عرفناه، والكنيسة التي نريد.
سأفتقد الكثير يا "ابونا" سمير، ولكنها سنة الحياة.
لكل شيء نهاية حتى العمر.
ولكن بصماتك ستبقى طويلا شاهدة على ما تركته في نفوس ومبيك وعارفيك.
تغمدك الله بواسع رحمته، وان كنت على يقين بان الجنة فرحت بقدومك.