من زلزالي تركيا والمغرب المدمرين، الى إعصار اليونان وتركيا وليبيا التي اصطحبت معها أمطار غزيرة وفيضانات وعواصف شديدة وصل ضررها الى فلسطين المحتلة، حمى الله لبنان من الكوارث الطبيعية التي أصبحت إحدى أكبر التحديات التي تواجهنا في القرن الواحد والعشرين، بسبب التغير المناخي. وفق تقارير الأمم المتحدة، تضاعف عدد الكوارث الطبيعية في العالم ثلاث مرات خلال الثلاثين عام الماضية، وزاد عدد المتضررين خمس مرات خلال الفترة ذاتها، ما يؤثر سلباً على الوضع الإجتماعي والإقتصادي والبيئي للناس، ويعرقل تحقيق التنمية المستدامة في معظم البلدان. وغالباً ما تتعرض المجتمعات الريفية - الفقيرة بالتحديد- للكوارث الطبيعية (مثل الأعاصير والتسونامي والجفاف والفيضانات والزلازل)، كما والمخاطر الناجمة عن النشاط البشري. تقدر الأمم المتحدة أن كل دولارٍ ينفق علي خفض المخاطر يوفر ما بين 5 و10 دولارات من الخسائر الاقتصادية التي تنجم عن الكوارث، الطبيعية منها والبشرية. ويطرح السؤال بإلحاح: متى تستفيق الدولة في لبنان للتخطيط من أجل الحد من مخاطر الكوارث والخسائر التي تتعرض لها مجتمعاتنا المحلية؟
رغم كل المبادرات والاتفاقيات الدولية التي وقع عليها لبنان، تبقى الدولة اللبنانية بعيدة كل البعد عن المرونة في سياساتها وفي إدارة خدماتها المدينية بشكل عام (وإدارة ملف النفايات والكهرباء والمياه بشكل خاص)، كما تغيب عمليات التنمية المستدامة وتطفو الاستثمارات غير المدروسة وغير المخطط لها بشكل سليم. ويتجسد الواقع المقلق بغياب الحوكمة الرشيدة المعتمدة على التخطيط الوقائي في الإستعداد والوقاية من مخاطر الكوارث، فلا وجود للفكر التخطيطي لصياغة منظومة وقائية متكاملة ترسم الخطط وتحدد المسؤوليات وتعتمد الابتكار والحلول الجذرية لتجاوز الكارثة أو التقليل من أخطارها الى أقل تقدير.
في 4 آب وقعت الكارثة المدوية مع تعرض إحياء من بيروت الى رابع أكبر إنفجار في تاريخ البشرية، قُتل المئات من الضحايا المظلومين، جُرح الآلاف، وتشرّدت مئات الآلاف من العائلات التي نُكبت بخسارة منازلها وأماكن رزقها وجنى عمرها. والمخزي فعلاً أنه في وقت كان المواطنون يعانون تداعيات الكارثة الأولى، أصبحوا ملزمين على تحمل الكارثة الثانية المتجلية في تخلي السلطات الرسمية عن القيام بواجبها تجاههم وتركهم لمصائرهم الأليمة: إنتشلوا بعضهم بعضاً، عالجوا جرحاهم وأزالوا الركام بأيديهم وأيدي المتطوعين وعناصر الجيش اللبناني، كما سعوا الى إعادة البناء بما إستطاعوا الحصول عليه من أموالهم المحتجزة في المصارف... هكذا لمّلم مصابو الإنفجار جراحهم، وسط حضور هزيل للجهات الرسمية المعنية بالإغاثة من "الهيئة العليا للإغاثة" و"وحدة إدارة مخاطر الكوارث" وغيرها... لقد فضحت هذه الكارثة ضعف التنسيق بين الأجهزة المعنية بإدارة مخاطر الكوارث وتشرذمها في ظل عدم وجود إستراتيجية وطنية واضحة وفاعلة تحدد بشكل أساسي مسؤوليات الأجهزة وأدوارها على المستويين المركزي والمحلي، بالاضافة الى النقص في الخبرات الفنية والتجهيزات والمعدات المخصّصة لهذه الغاية، كما والضعف في التمويل لتأمين حاجات فرق التدخل والتعويضات اللازمة للسكان...
والمؤسف حقاً أنه وحتى الان، لا تتحرك الدولة إلا عند حدوث الكوارث، والتي بمعظمها طبيعية ولا وجود لعنصر المفاجأة بها وهي شبه سنوية. ففي إستعراض لعيّنة من المخاطر التي يتعرض لها لبنان بشكل دوري، نجد مثلاً عند أول عاصفة شتاء، تغرق مدننا وتتحول الطرقات الى أنهار تجرف ما يعترض سبيلها وتدخل الى المنازل والمؤسسات، وتنقطع الكهرباء وتطوف النفايات لتلوث الأمكنة وتسد المجاري... وبحسب القائم بأعمال الامم المتحدة في لبنان: يتكبد لبنان سنوياً حوالي 5,323,000 دولار أميركي بسبب الفيضانات، هذا عدا عن الخسائر البشرية.
ما نراه على أرض الواقع، بعد كل كارثة، غالباً ما يتمّ توجيه الجهود والموارد لأعمال الإغاثة ولإعادة التأهيل والإعمار. إذ لا خطة وطنية واضحة لدى الدولة اللبنانية للحد من مخاطر الكوارث، ويتمّ تجاهل الوقاية والإستعداد لها، في حين أن هاتين المسألتين يجب أن تشكلا جزءاَ أساسياَ من سياسة التنمية المستدامة، خاصةً في ظل الأزمات المتكررة التي يواجهها الوطن والمخاطر التي تحيط به. كما أن قضية تغير المناخ العالمي لها بصماتها أيضاً، ونحن نشهد في العقود الأخيرة مظاهر مناخية متطرفة، يُتوقع أن ترتفع وتيرتها أكثر في العقود القادمة، وعلينا واجب فهم الكوارث (الطبيعية منها وغير الطبيعية) من أجل إدارة مخاطرها بشكل علمي سليم، والإستثمار في الحد منها وتعزيز الوقاية والإستعداد لها من أجل الاستجابة الفعالة، خصوصاً في عمليات إعادة التأهيل والإعمار، كي تصبح مدننا وتجمعاتنا البشرية أكثر مرونة ومقاومة للكوارث.
لا تستطيع الدولة أن تستمر في إنكار تعرض لبنان لمجموعة واسعة من مخاطر الظواهر الطبيعية (الفيضانات وحرائق الغابات وإنزلاقات التربة والجفاف والزلازل) والتي لا تقل أهمية عن مخاطر الحروب والكوارث البشرية. ومن شأن التعرض لهذه المخاطر- مقروناُ بضعف البنية التحتية والعدد المرتفع للسكان ولللاجئين الذين يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر- أن يزيد من تداعيات الكوارث زيادة ملحوظة، لا سيما في الضغط على النظم الحضرية التي تعاني من صعوبات في تلبية الإحتياجات الخدماتية الأساسية للسكان. يضاف إليها خمسة أبعاد أساسية متداخلة ومترابطة، وهي: (1) عشوائية العمران وعمليات إستخدام الأراضي اللبنانية، (2) التدهور البيئي، (3) الفقر وإنعكاساته السلبية على الإنسان والبيئة، (4) غياب التنسيق ما بين السلطات الوطنية والمحلية وفيما بينها، وضعف الحوكمة لناحية القدرة على مكافحة الفساد وفرض إلزامية تطبيق القوانين، و(5) الأوضاع الأمنية غير المستقرة مع ما تجسده من إرتفاع في درجة عدم اليقين وإنعدام ثقة اللبناني بالدولة ومؤسساتها.
يبقى المطلوب تبني الدولة إدارة مخاطر الكوارث كخيار إستراتيجي في تحقيق التنمية المستدامة. ولا بد من تعزيز اللامركزية في مجال الحد من مخاطر الكوارث وفقاً لإطار هيوغو وإتفاقية سينداي العالمية، كما وضمان إدماج موضوع الحد من مخاطر الكوارث في برامج التنمية المحلية. فالكوارث تصيب محلياً، لا سيما المناطق الهشة، ما يرتب مسؤوليات كبرى، ليس على عاتق السلطة المركزية وحسب، وإنما على السلطات المحلية أيضاً وعلى المجتمع الـمدني.
يتطلب الحد من مخاطر الكوارث إقامة علاقات وروابط رأسية وأفقية قوية، متينة ومتناسقة، بحيث يتولى المركزي - بشكل أساسي - تأمين كافة المبادرات مع المتطلبات اللوجيستية والمالية لتحقيق الخطط التي توضع مسبقاً بالتشاور والتضامن مع المستوى المحلي. وتتولى البلديات – (عن طريق اللامركزية) المهمات في تنسيق كافة الجهود المحلية وإشراك منظمات وجمعيات المجتمع المدني من أجل ضمان حسن سير عمليات الإغاثة والحد من تداعيات مخاطر الكارثة. بإمكان المجتمع المحلي الإستجابة للإحتياجات المحلية والإستفادة من المعطيات والمعرفة والخبرة المتوفرة في أوقات الأزمات، كما أنه فعال من حيث التكلفة ووقف الهدر في المال والوقت، وفي تحسين قدرة المشاريع والأعمال على تحقيق الاستدامة. هكذا تنبى ثقافة الحد من المخاطر في كافة القطاعات وعلى جميع المستويات: الوطنية منها والمحلية، ويتوسع مفهومي التكافل الإجتماعي والتطوع المدروس والمنظم بشكل تكاملي.
حان الوقت لتأمين العيش الكريم في بلداتنا ومدننا ووطننا وفق نهج تشاركي يعتمد اللامركزية ويشمل جميع مستويات الحكم، من الدولة ذات الحكم الرشيد في إدارة البلاد، مروراً ببلديات وإتحادات بلديات قوية ومنتجة، إلى مواطنين ملتزمين ومسؤولين عن تقرير مصيرهم. ويجب أن تحدد الإدارة الجيدة لهذا الملف الشائك في لبنان أدوار ومسؤوليات الجهات الفاعلة على المستويات المختلفة من العمل، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، وعلى المستويين الوطني والمحلي، لضمان حسن سير أنشطة إدارة الحد من مخاطر الكوارث واستمراريتها واستدامتها.