قبل مئة عام من اليوم بدأ مخاض الثورة السورية الكبرى من تلال جبل العرب وسهوله، على إثر اعتقال قوات الإنتداب الفرنسية المجاهد أدهم خنجر الذي كان ينقل رسالة من جبل عامل إلى القائد سلطان باشا الأطرش في بلدة القريّة في السويداء، وقد تمَّ إعدام خنجر في 30 أيار (مايو) 1923 بعد نقله إلى بيروت. وولدت الثورة، وانتشرت كحبال الشمس الذهبية على كامل التراب السوري، بعد أن التحق بصفوفها قادة ونُخب من كل أقاليم سوريا التي جزأها الإستعمار دويلات طائفية، وكان أبرزهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر من دمشق وابراهيم هنانو من الغرب والساحل وفوزي القاوقجي من حماه وحسن خراط من الغوطة وعبدالله الجابري من حلب. واتفق الجميع على تولية سلطان باشا الأطرش قيادة الثورة في 21 تموز (يوليو) 1925، تحت شعار: "الدين لله والوطن للجميع". وكان للثورة ما أرادت رغم غطرسة قوات الاحتلال الفرنسي ووحشيتها، وعادت الوحدة إلى البلاد، ولو بعد حين.
على الدوام كان للموحّدين الدروز دور متقدّم في المحطات النضالية العربية، وأبرز ما يحرّكهم على الدوام؛ كان مقاومة الإذلال والتمسُّك بالعيش الكريم، ومقارعة الإستعمار والجيوش المحتلة الغريبة. هكذا كان دافعهم عندما اندفعوا لعضد صلاح الدين الأيوبي قبل أكثر من ألف عام، والمقاربة ذاتها اعتمدوها عندما تحدّوا غطرسة قادة عثمانيين، وفي مواجهة جيش إبراهيم باشا عام 1837 عندما حاول تجريدهم من السلاح، واستمرَّ الوضع على الشاكلة ذاتها عبر عشرات السنين ضدّ الإنتداب الفرنسي وضدّ الإستبداد الداخلي. وكان جميع المتدخّلين في شؤون الجبل يعتمدون الاستراتيجية الممجوجة ذاتها، وهي عزل الجبل عن الداخل السوري وعن لبنان، وتوليف التهمة التافهة الجاهزة على الدوام؛ بأنّ الدروز يريدون الإنفصال، ولهم مشاريع تقسيمية وتمرّدية خاصة. لكن التهَّم ما تلبث أن تتبدَّد كما تنجلي غيوم الصيف، وتظهر الحقائق على العامة، فلا يبدو في هذه الحقائق أي مشاريع تمرُّد او انفصال عن الوحدة السورية، ولا فيها تمرير لمشاريع خارجية، وكل ما في الأمر أنّ الدروز لا يقبلون الذلّ، ولا يتحمّلون الإهانة، وليس لديهم أي طموحات خاصة خارج الولاء للوطن الواحد سوريا، وهو ما أكّدته مقاومتهم للرئيس أديب الشيشكلي، ومن ثمَّ قتله بعد أن اتهمهم بالتحضير للتمرُّد وقصف السويداء عام 1954.
الدروز جزء من النسيج الوطني العربي السوري، وقد عانوا الكثير جرّاء التمسُّك بثوابتهم الوطنية والقومية، وكانوا رافعة للعمل الوحدوي على الدوام، منذ بداية العدوان الصهيوني على فلسطين، مروراً بمشاركتهم الفاعلة في الحروب ضدّ إسرائيل، وكانت لضباطهم مكانة متقدّمة في صفوف الجيش العربي السوري، وتولّوا وزارة الدفاع لأكثر من 5 مرات بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946، لكن ذلك تغيَّر بعد قيام "الحركة التصحيحية" التي نفّذها الرئيس الراحل حافظ الأسد عام 1970، وكان أبرز ما قام به تحجيم دور الضباط الوطنيين الدروز في الجيش والتنكيل بهم، كما حصل مع العقيد سليم حاطوم واللواء فهد الشاعر.
ثورة دروز السويداء هذه المرَّة تندرج تحت العناوين الوحدوية ذاتها ومن أجل العيش الكريم، ومنطلقاتها ترتكز إلى شعار" فوق الأرض بكرامة او تحت الأرض بكرامة"، وهو شعار أطلقه المجاهد الشيخ وحيد البلعوس قبل أن تغتاله بوحشية العصابات التي تدور في فلك النظام أمام مستشفى السويداء، بعد أن نجا من سيارة مفخخة استهدفت موكبه، ذلك لأنّ البلعوس رفض الإقتصاص من الشباب الذين تمنّعوا عن الالتحاق بالخدمة الإجبارية، لأنّهم يرفضون قتال أبناء وطنهم في حمص وحماه وحلب ودرعا ومحيط دمشق.
انتفاضة أهل السويداء المستمرة منذ أكثر من 10 أيام؛ لاقت عطفاً مدوّياً عند الغالبية العظمى من الشعب السوري، وتلازم حراكها مع انتفاضة متجددة في مدن حواران ودرعا وقراهما ضدّ النظام، كما تحرّكت بالتوازي معها جماهير غفيرة في محيط دمشق وحلب وبعض الساحل، إضافة إلى حراك ملايين السوريين المهجّرين إلى خارج البلاد، او الذين نزحوا ويقطنون في محافظة إدلب التي لا تخضع لسلطة النظام. والنظام كما في كل مرَّة؛ جهَّز ماكينته الإعلامية وجيشه الإلكتروني لتشويه سمعة انتفاضة أبناء السويداء وزرع الشقاق بينهم وبين بقية أبناء الوطن، من خلال تعميم معلومات مغلوطة عن حراكهم، لاسيما موضوع عدم رفعهم العلم السوري في التظاهرات، واستبدال راية التوحيد به. وكان أبرز مَن استخدمهم النظام وداعموه في الداخل والخارج، الخلايا النائمة من الإرهابيين الذين سبق واستخدمهم ضدّ السويداء عندما تمرَّدت على العصابات التي تدور في فلك النظام عام 2018، وقد هاجم هؤلاء القرى الآمنة شرق السويداء، وقتلوا ما يزيد عن 125 شخصاً وخطفوا 36 من النساء والأطفال.
يحاول النظام استثمار رفع علم التوحيد للإيحاء بنوايا انفصالية لثورة أهل السويداء، بينما حقيقة الأمر كما أكّد لنا أحد كبار المشايخ؛ أنّ عدم رفع علم الثورة السورية كان مراعاةً لبعض الموظفين وعائلاتهم ولأفراد القوى المسلحة، لأنّ ذلك يُعتبر جناية شائنة وفقاً للدستور من جهة، ولأنّ بعض رجال الدين الذين يتقدّمون الثورة حريصون على إشراك كل أبناء الطائفة بالحراك من جهة ثانية، وهؤلاء لا يريدون تكرار ما حصل في الماضي، عندما نجح النظام في بث التفرقة في صفوف المواطنين. ورموز الثورة المُتجددة من رجال دين ومدنيين وعسكريين متقاعدين يؤكّدون جميعاً التمسُّك بوحدة سوريا وضرورة التغيير وفقاً لمندرجات القرار الأممي رقم 2254، والقرار يُحدّد بوضوح آلية اجراء المصالحة وتعديل الدستور، لأنّ الحكم الحالي يُسخِّر مؤسسات الدولة بكاملها لخدمة مصالحه الشخصية والفئوية، بينما هذه المؤسسات يجب أن تخدم الدولة الراعية لمصالح عموم المواطنين.
ثورة جبل العرب عام 2023 تُشبه بداية ثورة جبل العرب قبل ما يُقارب 100 عام. ويبدو أنّها ستشمل سوريا بكاملها، ولن تتوقف قبل تأكيد الوحدة السورية وإقامة نظام عادل يحفظ حقوق المواطنين وكرامتهم وعيشهم الكريم، وغالبية هؤلاء لا يستطيعون تأمين لقمة العيش لأطفالهم، ولا دخول المدارس والمستشفيات، ويتعرّضون للإذلال في الشتات، بينما المجتمع الدولي غائب عن مناصرتهم، والإعلام المُوجه يتغافل عن قضاياهم المُحقّة، ويتسلَّى برحلات الموت التي يقومون بها للهروب من جحيم البؤس والقهر والجوع في الوطن.
يقول أحد ناشطي الحراك: "ليس لأبناء السويداء التي قلَّص نظام حافظ الأسد مساحتها من 11 الف كلم مربع إلى 6 الآف كلم وأقفل معابرها مع الخارج؛ أي نوايا انفصالية، وهؤلاء لهم تضحيات لا تُنسى من أجل وحدة سوريا، وفي سبيل الحفاظ على مؤسسات الدولة، حتى في سنوات الحكم الفئوي الماضية. لكن يبدو أنّ الكيل قد طفح، ومقومات الإستمرار والعيش الكريم إنفقدت مع سلطة فاسدة لا تهمّها رعاية مصالح الناس بقدر ما يهمّها الحفاظ على مكاسبها الشخصية والفئوية المرتهنة للخارج. والحجج التي يسوِّقها رموز النظام من أنّ الحصار الخارجي والعقوبات هي التي تقف وراء الأزمة الاقتصادية؛ مردودةٌ عليهم، والحقيقة أنّهم هم ذاتهم سبب فرض هذه العقوبات، وسياستهم هي التي سبّبت المجاعة والعوَز للشعب السوري. ولن نسكت عن خطة تحويل هذا الشعب الأبي إلى شراذم تتعاطى المخدرات وتتقاتل، كما يريد قادة النظام ومَن يقف وراءهم.