الانحراف في الحياة... "الأنباء" تستعيد ما كتبه كمال جنبلاط

26 آب 2023 08:05:00 - آخر تحديث: 27 آب 2023 00:44:14

في زمن تحوّل البشرية الى مجتمعات استهلاكية في كل شيء، حتى في القيم والعادات والأخلاق، يصبح موجباً العودة الى أصالة الحياة فينا علّها تقينا شرّ هذه الرياح الهوج.

جريدة الأنباء تستعيد ما كتبه المعلم الشهيد كمال جنبلاط بعنوان "الانحراف في الحياة"، وجاء فيه: 
 عندما تجتاح الرجل الميوعة، وتطغى على المرأة مظاهر الخشونة، ويتمسّك الناس بالمساواة الحسابية فيما بينهم، فكلٌ يقلّد الآخر تقليد الحجل للغراب، فيما عرف أن يمشي مثله ونسي مشيته الأولى. 

وعندما يحدث ذلك في مسار التذكّر والتأنث، تنتاب الفرد والجماعة شتى ألوان الانفعالات الانحرافية، لأنّ الطبيعة كلها بجميع ثنائياتها ليس فيها مساواة، بل تضاد في وحدة من التكامل يلعب الحب دور الجاذب أو النفور، على حد تعبير الفيلسوف أمبيكلوس الجميل، أي  دوره في الإيجاب والسلب. 

وهذا الحب الجاذب، وهذا النفور نجدهما في جميع مستويات بني الطبيعة انطلاقاً من الجزئيات والذرّات، وحتى قبل تكوينها في السديم البسيط الأولي، والذي يسمّيه إخواننا الموحدون الدروز المادة الهيولية الأولى، إلى الخلية الحية، وثمّ إلى الكائنات العضوية، وثمّ إلى عقل الإنسان، وإلى مدار تفاعلات حياته الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وعندما تتساوى الأشياء في هذه المساواة التامة الحسابية مادةً وشحنة، تبطل فيها الحركة وتتوقف الحياة، وتنعدم مظاهر الطاقة في صيرورتها، تحدّثنا عن هذه التقليعة الجديدة والآفة الحديثة، التذكّر والتأنّث، وهي من مستوردات هذه الحضارة الصناعية الليبرالية المنفلتة من كل قيدٍ معنوي، ورباط اجتماعي، والتزامٍ ببناء الحياة، وبالكشف عن حقيقتها فينا وحولنا في العالم المحيط. فإذا بهذا الجيل، ومعظمه   جيل بلا تقاليد، وحاضرٌ بلا ماضٍ، وتحضّرٌ بدون حضارة. وكيف يستطيع أن يتطور، إن لم يكن له ماضٍ وتقليدٍ وأسس ومبادىء ينطلق الإنسان أن يبني مستقبله، وأن يدرك انسياق تطوره ويجني منها جميعاً ليبني حياته المقبلة. 
وهل تقوى الشجرة على مجابهة الحر واليبوسة، والرياح وثقل الأعمدة والأغصان، إن لم تكن قد مكّنت جذورها في أعماق التربة الحاوية حيث تجد القدرة على الانتصاب في ثبات الجذع في الأرض الجامدة، والغذاء والماء في ما ادّخرته حبيبات الأديم من حاجة لها في سابق الاستعداد والتقدير، مظاهر مانية فيها. وللتذكّر والتأنّث وجهٌ خطير آخر .. هو وجه الانحرافات الجنسية والخُلقية والانتكاسات العاطفية، والنزاعات العائلية، ويعود مردود هذا كله على الأولاد وعلى سعادة الإنسان. 
ففي أصل تكوين الأجنة في رحم المرأة تكون العلقة لا يتميّز فيها أعضاء ومقومات الرجولة من الأنوثة لأن التنوّع والاختلاف يحدث في طورٍ متأخرٍ نسبياً من حياة الجنين، وكأنّ الإنسانية تبدو واحدة في البدء ثم تتميّز فيما بعد .. ولذا ورد في الأساطير اليونانية القديمة، وفي غيرها أيضاً، أنّ الجنس البشري يوم برز على وجه الأرض المسكونة بالنبات والحيوان كان يمتلك مقومات وأعضاء الجنسين – اندروجين، كبعض أنواع الديدان التي نراها تسعى في حدائقنا .. وفي هذا دلالة وإشارة إلى ما يحتفظ به الطفل والشاب والطفلة والشابة، والكبار والصغار، في ذاكرة الباطن وفي تلافيف الأغشية من نزعات متضادة تجب العناية بتنميتها وتطويرها وإظهارها من غلافها المدفون، فتقوى آنذاك في الرجل لفحة الرجولة وتضمحلّ آثار الأنوثة في ظلّها وفيها،  وتقوى في المرأة علامات الأنوثة وتغلب نفحتها، وتزول بقايا الوشم الرجولي عنـد النسوة. فالافتراق من الأصل الجنيني جسدياً ونفسياً ومعنوياً بيِّن، وظاهرة التمييز يجب أن تأخذ مداها الأوسع والأقصى. ولا يتم فعل هذا التباين - في مستوى خلق الانسان ومزاجه وميوله وتصرّفه - إلّا إذا انفعل الصبـي والشاب تماماً بمظاهر الرجولة .. من خشونة العيش، وتكاملت ملامحه المعنوية بنقيض ما يحيط المرأة من تفكير وشعور وزي وتصرفّ. 

 المرأة ولدت لتكون امرأة والرجل ولد ليكون رجلاً، وإنّما يلتقيان وينصهران في وحدة الزوجين أو محبة الرجل والمرأة لأولادهما ذكوراً وإناثاً، فالعائلة هي خلية طبيعية، وأكاد أقول بيولوجية في حياة الإنسان والمجتمع.

وهذه المظاهر من تقليد المرأة للرجل في الزي وفي التصرّف وفي الاعتمال بالحياة، وتقليد الرجل للمرأة في ظاهر الأمر، وفي كوامن النفس والتفكّر والشعور. هذه المظاهر من التقليد المنعكس تكون مصدراً لشتى الانحرافات الخلقية والجنسية تطبعه بغير طابعه الأصلي المفروض، وردّت عليه مساوىء التنكّر بثياب الغير وبصورتهم .. فلا نعجب من انتشار شتى ألوان الرذيلة الجنسية والانحرافات المعارِضة لطبيعة الإنسان في ما نواجهه من أوضاع مردية وانحلالية للحضارة العصرية المتقدمة.
 وهذا التعاكس في لبس الجنسين لِما ليسا عليه أصلاً، ينزع من المحبة الحقيقية ويجعل الشعور فاتراً ويضفي على صلة الزوجين ذاتها شيئاً من البلادة والقلق والهم الذي لا يرتوي ويفرغها من مضمون الفرح الوجودي الحقيقي، ويفكّك عرى العائلة وينعكس على نفسية الأولاد، ولذا كان هذا العصر الذي حفل بالتقدّم المادي وبتتميم حاجات الناس جميعها وفوق حاجتهم في الدول المتقدمة كما لم يتوفر ذلك في أية حضارة ماضية - كان هذا العصر ، عصر القلق، وعصر التطلّب، وعصر غياب الفرح الذي تولّده سلامة التوجّه وسلامة العلاقات، وسلامة التباين في الوحدة وسلامة الجهد، كما تفرضه قوانين الطبيعة ومسارات التقليد المتأصّل الذي رافق ظهور الإنسان منذ ثلاثة ملايين من السنين، وفق التقديرات والاكتشافات الاخيرة. 
ثم أنّ الحب البشري يتغذّى بما تكون عليه المرأة من مظاهر النعومة والتبرّج، ولا تختلف في ذلك أنثى الحيوان عن أنثى الإنسان، فإذا بهذه الشهور والأزياء المتأمركة، وفيها ألف لون ونوع، تحجب هذه الناحية الجمالية للمرأة وللرجل أيضاً .. كلٌ يلبس على هواه ويدخل في هذا الكيس من الثياب الملونة تلويناً مفجعاً، أو ينزل في سراويل ليس أبشع منها منظراً وأكثر تبايناً .. فلكلٍ "موضته"، فهذا يتجنفص - يلبس الجنفيص - وذاك الحرير ، والآخر  "البلوجين"، وهذا قميصه تنفّر، وذاك سترته تتراخى، إلخ .. برج بابل الأزياء والفتن - وما من فتنةٍ أو روعة في أي بدلةٍ يلبسون. والأغرب أنّ أولاد الأغنياء يقلّدون الفقراء وأحياناً المتسولين في لباسهم، فهذه رقعة في الظهر وتلك على السروال والأخرى على القبعة والقميص - ثم يمتطون سيارات "السبور" الغالية جداً والتي لا تتناسب مع تفاقرهم ـ أي تزييهم بزي الفقراء - يقرقعون بها على الطريق، ويزعجون السكان، ويصدمون المارة أحياناً، وينصرفون معظم نهارهم إلى الكسل - وهو ليس من عادة الفقراء - وإلى صرف المال من جيوب أهلهم بدون حساب آلاف الليرات في الشهر الواحد، في ما عدا الديون التي يستخدمونها، وأحياناً بعض أعمال السطو الفردي كما نقرأها في الصحف مراراً. فكيف يمكن بدون نفح الحياة بطابع التمدّن الخلقي الحقيقي، وبدون نفحة الجمال في ما نتزيّا  ونفعل، وبدون روح القناعة والانصراف إلى الجهد والعمل وبدون التفكير الدائب في مصلحة الآخرين وفي خيرهم وفي خير المجتمع، أن يكون الإنسان سعيداً، أو يشعر بشيء من اللذة في حياته. إنهم في مسار غلبة شرعة الاستهلاك عليهم  يستهلكون نفوسهم كالهرة التي تلحس دمها في المبرد، فيذهب الدم ويبقى المبرد.

 سنشرح فيما بعد بعض النواحي الإيجابية لهذا الانفلات، لأنه ما من شيء شر محض أو خير محض، ولكن مثل هذه التصرفات تذكّرنا بقول هرمس ذي الثلاث شعب، "وإن يا نفس أراكِ تطوفين حول ذاتك كمن يطوف حول صنمه، فقلب ذات نفسه أقسي الصنم، وكثير ممن أعلمت وأخبرت، فهم حجارة أنفس تطوف حول حجارتها".