على الطريق، وبين المختارة وشمسطار، حمل الفتى الفكرة من مدرسه الضيعة ومشىَ يوم كان لبنان يعيشُ هياج رفض التدجين في "حلف بغداد" الذي صُنع لتطويق المارد جمال عبد الناصر، تحت حجة محاربة الشيوعية.
وعلى الطريق، خبَّت ركاب الحالم في كل الدروب، ومن على حفافي الحلم صوَّر مشاهد المعركة، في مشواره اليومي بين بعقلين مركز سكنه مع والده إبراهيم، الذي كان يرأس أحد مخافر قوى الأمن الداخلي، وبين المختارة التي اختارها ليتدرَّج في مدرستها المتوسطة، لكنه تدرَّج فيها على كل شيء، وهو قال: خلال ثلاث سنوات من فتوّتي تعرفت في مختارة كمال جنبلاط على كل لبنان، وفي صبحية سبت "القصر" مع المعلّم كان يحضر التاريخ، وكانت تحضر الجغرافيا، وكنت أشاهد في خيالي عظماء العالم والفلاسفة، كأنهم يقفون في الدور مرشدين ومتبصرين، واعظين ومُنصتين، وتحوَّلت المدرسة أمام هالة كمال جنبلاط من صفوفٍ في اللغة والفيزياء على يد فوزي عابد، إلى مساحةٍ لا أُفق لها، مليئة بالمعاول والمناجل، وبالأقلام والكُتب.
وعلى الطريق، بقيَ طلال سلمان يحمل الفكرة، ويكتب عنها، فتىً كما في ريعان الشباب، وفي مرحلة النضوج، إلى أيام الكهولة. وبنى للفكرة بيتاً دخله مع كوكبة من المثقفين والعروبيين في 26 آذار 1974. وكانت السفير، صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان.
وكانت "السفير عشيقتي" كما كان يحلو له القول.
رافقت كل أعداد السفير زاوية صغيرة تحمل عبارات قليلة من خطب ومقولات عبد الناصر، بينما كانت الناصرية تتعرَّض للتهشيم من كل حدبٍ وصوب. لكن طلال سلمان لا ينكر بأن الفكرة القومية العروبية أدخلته إلى كل بيت، وهي فتحت أمامه أبواباً موصدة، وساعدته في إطلاق براعته الفكرية والأدبية التي تمرَّدت على القيود. فواكب طلال سلمان أبرز مراحل النضال العربي والفلسطيني والتحرري، وكان ضيفاً دائماً على عيون القراء على امتداد الوطن العربي، برغم القيود التي كانت موضوعة على الصحافة الورقية
مع التحوّلات التقنية والرقمية التي استجدّت. ومع الصعوبات المالية التي واجهت السفير كما كل المنشورات الورقية، اختار طلال سلمان أن يتوقف عن إصدار الجريدة في 4 كانون الثاني 2017، ورفض تأجيرها لخدمة مشاريع وأهواء لا يستسيغها، برغم أنه كان يلتقي مع بعض هذه المشاريع المقاومة أحياناً، لكن الالتقاء في محطة أو في موقف شيء، والاسترهان لخطٍ شيءٌ آخر. وخوفاً من أن تتحوَّل السفير الى وسيلة ترويج لهذا أو لذاك، قرّر توقيف إصدارها، ولكن السفير بقيت في ذاكرة المثقفين والعروبيين، وفشلت كل محاولات وراثتها، كما كل جهِود تقليدها، أو التعويض عن غيابها. وتبيّن بالوجه الدامغ أنّ السفير كانت رسالة وليست مجرد صفحات أخبار. والأخبار لا يمكن أن تتحوَّل إلى رسالة.
وفي كتابه "سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق 2004" قال طلال سلمان: إنّ غالبية المأساة التي عاشتها الأمة ناتجةٌ عن غياب الديمقراطية، وفكرة إحياء العروبة لا يمكن أن تتحقق من دون التكامل مع الديمقراطية المُنظمة.
يرحل طلال سلمان وسط العتمة، وفي ليلةٍ ظلماء تنتظر البدر، والبدرُ يصارع الغيوم المُلبدة، وينتظر بزوغ الفجر، لكن الفجر الجديد يخاف من الإطلال على هكذا مشهد.
سيتغيّر المشهد، ولا بدّ للّيلِ أن ينجلي، وروح طلال سلمان، وأرواح المئات غيره من الذين قضوا على الطريق، خميرة ترتوي منهم الفكرة بعد ظمأٍ شديد.
عذراً طلال سلمان: هناك مَن يرثيك ليُحييك، وهناك مَن كان يريد موتك ليمدحك. ذلك هو قدر الكبار، وتلك ربما تكون جزءاً يُشبه حكاية يوسف.