Advertise here

بعد صولات وجولات... رحل كثر وبقيت المختارة

20 حزيران 2019 10:52:43

من يتربّص بـ"الفريسة" مختبئاً خلف حالةٍ أو حدثٍ، لا ينجح في اصطياد فريسته، بل لا يقتل غير نفسه. فعندما تدنو ساعة الحقّ، أو المواجهة، يجد نفسه مرتعداً. تقصف ركبتاه ارتجافاً، فلا يعود قادراً على الوقوف حتّى يتناثر كهباء، وبالكاد يبقى منه أثرٌ للغبار. وبما أن هذا النوع من المتربّصين، لا يقوى على انتقاء قوته بساعده، فهو لا يعتاش على غير فضلات يلملمها كالغربان عن بيادر منسية ومهجورة. وما أكثر هذه النماذج في لبنان، بعد التسوية الرئاسية تحديداً.

ينسى هؤلاء أنفسهم إلى أن يأتي من يذكّرهم بوجودهم، ويلكزهم بأنه حان وقت مغادرة أضغاث الأحلام التي يتوهمونها في انعزالاتهم وأحقادهم، وأصبح الوقت طيعاً لتفجيرها. فلا تتفجر هذه الأحقاد إلا بالتزامن مع استعار الحملات على وليد جنبلاط. فتصبح المعادلة كنمسٍ يتربّص نمراً. يتخيّل النمس نفسه نمراً، فلا يظهر كغير قطّ، غير قادرٍ سوى على المواء بانتظار قطعةٍ من هنا، أو جيفةِ غراب آخر قد رماه الزمان، فيجري ساعياً لنهشه.

يظنّ هؤلاء أنفسهم زعامات، أو أصحاب أدوار. يتوهمون الدور في كوابيس تؤرّقهم، فينتفضون في لحظة استفاقة على غفلة، ويتوهمون بأن الزعيم لا يصنعه إلّا تقليد زعيم، أو الدخول في مساجلته. لكنّ النمر لا يعرف يوماً لغة وصوت الغراب أو القط. فيعودون أدراجهم إلى صمتهم، وحالهم كحال الغراب الذي حاول تقليد مشية النعامة، ولم يُجدِه ذلك نفعاً، ولا يعود قادراً على مواصلة المسير.

ينسى هؤلاء أنهم تربّوا على فضائل وليد جنبلاط، وفضلاته من مقاعد نيابية، وشواغر تعمّد زعيم المختارة، حامل 400 سنة على كتفيه، أن يبقيها لهم لعلّهم يقتاتون ويشبعون. فيتوهمون عظمة ظلالهم، متناسين أنهم يستندون إلى ظلّ شمس محجوبةٍ في سوريا. شمسٌ قد حجبتها دماء الأبرياء وقتلاهم من براميل متفجرة. يتناسون اتّكاءهم على جبل تحوّل إلى غابةٍ من المكائد والمؤامرات، حتى لم يعد يملك نفسه. فحاله غدا كحال الجولان، سليباً رهيناً محتلاً، وأعراض اغتصابه تظهر تسعة أشهر بعد تسع، حتى أصبحت سوريا حبلى بهموم تفوق عظمة القضية الفلسطينية.

يتوهم هؤلاء بأنهم يستندون على "عهد"، أو بالأحرى على ولاية رئاسية، لسدّ نوازع وفوارغ نفسية في دواخلهم. يستجدون صناعة انتصار ولو كان وهمياً، فيتداعون إلى التغريد بمواءٍ لن يعود عليهم بغير فراغٍ يراكمُ فراغاً. وعلى الأرجح أن هؤلاء لا يعرفون أنفسهم. يتناسون تاريخهم الطارئ على السياسة وعلى لبنان، وكأنهم يظنّون أنها الولاية الرئاسية الأولى التي تمرّ على دار المختارة. يراهنون على أهوال الأحوال، غير مفقهين لعراقة الدار التي حاولت أن تعصف بها رياح العهود الكثيرة، لكنها بقيت عاتية عاصية على أمراض الخبثاء والضعفاء.

ينسى هؤلاء عهود "أربابهم" بين 1998 و2007، ويتناسون عهوداً ماضية، وصولاتٍ وجولات خاضها كُثر رحلوا، وبقيت المختارة. ولأن الضعيف يستضعف خصمه، يضيّع نظره وذاكرته، فينسى مَن أخرجه من عباءة إسرائيلية، ومَن حافظ على عروبة لبنان بمواجهة موجات "تغريبية" أو انعزالية، فصمدت المختارة في الإستقلال وما بعده، وفي ثورة الـ 58 وبعدها. ينسى هؤلاء، أصحاب ذاكرة السمك، وليس حالهم أفضل من حال مجتمع السمك القائم على نهش الكبير للصغير، بأن ما مرّ على المختارة، أبعد من أفُقهم وأمضى، وأوسع وأمدى منذ معارك الإستقلال الأول أيام السلطنة العثمانية، إلى الحرب العالمية الأولى، وبعدها خلال الإنتداب، أو في حقبة الاستقلال. ينسى هؤلاء أن الطارئين يرحلون وتبقى المختارة. وما يراهنون عليه اليوم لا يعدو كونه نقطةً في بحر عمر المختارة، وخدشٍ على ذاكرة تاريخها في المستقبل.