تمكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من ضبط الحد الأدنى من الاستقرار النقدي والمالي والاقتصادي في أسوأ انهيار عرفه لبنان في ظل تحلّل مؤسسات الدولة الدستورية والوزارية والإدارية.
ربّ قائل إن سلامة يتحمّل جزءًا من مسؤولية الانهيار، لكنّ الحقيقة تكمن في أن الحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة تتحمل المسؤولية لانها كانت تملك السلطة على القرارات المالية والنقدية والاقتصادية، كما كان بإمكانها تغيير حاكم مصرف لبنان عند انتهاء كلّ ولاية من ولاياته المتعاقبة لو كان يتمرّد على سياساتها.
أما العنصر الأساسي في المرحلة الأخيرة في ضبط الأوضاع النقدية فتمثّل في اعتماد رياض سلامة على منصة "صيرفة" التي أتقن الاحتفاظ بأسرارها وألغازها لدرجة حيّرت جميع الاقتصاديين والماليين. فبالعودة إلى التصريحات التي كان اللبنانيون يتابعونها، كان خصوم سلامة يهوّلون بخطورة "صيرفة" لناحية الادعاء بأنها تهدر أموال الاحتياطي الالزامي، وكان هؤلاء ينظّرون منذ عامين بأن مصرف لبنان لم يعد يملك من الاحتياطي أكثر من ملياري دولار، ليتبيّن أنه لا يزال يملك حتى اليوم حوالى 10 مليارات دولار، إضافة إلى أن حاكم المركزي يدعم السوق النقدية بما بين 800 مليون ومليار دولار شهرياً من دون أن يمسّ الاحتياطي، ما أذهل جميع المراقبين، وخصوصاً أن عمل منصة "صيرفة" أراح التجار والمستوردين إضافة إلى موظفي القطاع العام والعسكريين في اختلاف مؤسساتهم وأجهزتهم.
وتمكّنت المنصة من خفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة من أكثر من 140 ألف ليرة للدولار الواحد إلى حدود الـ90 ألفاً، وهو يستمر بالحفاظ على الاستقرار على الأقل منذ نيسان الماضي، ما يؤكد إمكان تأمين استمرار هذا الاستقرار حتى إشعار آخر رغم أنف المراهنين على الانهيار السريع في ظل طبقة سياسية عاجزة عن فعل أي شيء، من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وليس انتهاءً بإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
لعل المفارقة الأساسية في موضوع "صيرفة" هو انتقال صندوق النقد الدولي من موقع المنتقد لها إلى موقع المراهن عليها لتأمين عملية توحيد سعر الصرف عبر تحويل "صيرفة" إلى منصة بيع وشراء للدولار مفتوحة أمام الجميع (Bidding platform) بما يؤمن توحيد السعر والانتهاء من تعدد أسعار الصرف.
عند هذه النقطة حصل تطوران بارزان وشديدا الخطورة:
ـ الأول هو اقتراب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 31 تموز الجاري، من دون أي إمكانية لتعيين بديل أصيل له في ظل حكومة تصريف اعمال لا صلاحيات دستورية تسمح لها بالتعيين إضافة إلى رفض سياسي كبير لأن تقوم بأي تعيين بدءًا بموقف "حزب الله" ومروراً بموقف "التيار الوطني الحر" وليس انتهاء بموقف "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" وعدد كبير من النواب المستقلين والتغييريين بما يقفل أي باب أمام الحكومة للذهاب إلى التعيين. ويبقى السؤال في هذا الإطار:
ماذا لو غادر سلامة منصبه صباح 1 آب المقبل؟ ومن سيتمكن من فك شيفرات "صيرفة" ومن السيطرة على سوق الصرافين للإبقاء على الاستقرار النقدي القائم؟
ـ الثاني وهو التطور القضائي الخطير بعدما منعت القاضية الفرنسية أود بوريزي المديرة التنفيذية لمكتب حاكم مصرف لبنان ماريان الحويك من القيام بأي عمل لمصلحة مصرف لبنان ومن التواصل في الحاكم ونوابه ومسؤولين في المصرف، ما يجعل منصة "صيرفة" في خطر داهم، كون الحويك هي من اشرفت على المنصة منذ انشائها، وكانت تتولى المفاوضات مع صندوق النقد بشأنها، كما أنها تملك مفاتيح "السيرفرز" التي تستضيف "صيرفة" (Hosting). كما أن الحويك كانت تعمل لتطوير وتحديث هذه المنصة وتزويدها ما يلتزم لتلبّي متطلبات صندوق النقد وفق ما يقول عارفون.
وبالتالي أي مصير لـ"صيرفة" بعد عزل الحويّك عنها وعن التعاطي في كل ما يخص المصرف المركزي؟ الثابت في هذا الإطار أن "صيرفة" باتت مهددة بالتوقف في أي لحظة لكون الموظفين الذين يشغلونها لا يملكون أكثر من القدرة على القيام بالعمل اليومي الروتيني عليها في تسجيل العمليات وغيرها، ولكن لا يمكن لأحد غير الحويّك من التنسيق مع صندوق النقد أو العمل على تطوير المنصة أو القيام بأي اعمال ضرورية فيما لو أصاب تطبيق المنصة أي عطل.
بناء على ما سبق تتخوّف مصادر مصرفية ونقدية من أن تشكل العوامل أعلاه خطراً داهماً على الاستقرار النقدي الذي انعكس حركة اقتصادية لافتة، ما يضع البلد أمام سيناريوهات كارثية بعد 31 تموز المقبل وفي حال الإصرار على استبعاد الحويّك عن عملها، ما يعني الوقوع في المحظور وانفلات سعر الصرف وحصول الانهيار الكبير في لحظة واحدة... فهل من يستدرك الأمر قبل الوقوع في المحظور، وخصوصاً ان المنظرين للاستغناء عن "صيرفة" لا يقدمون أي بديل سوى انسحاب مصرف لبنان من السوق، ما قد ينذر بتسارع الانهيار الكبير!