المجازفة غير المضمونة!
09 تموز 2023
11:00
آخر تحديث:09 تموز 202311:00
Article Content
منذ العصور الغابرة تلعب روسيا دوراً أساسياً في السياسة العالمية، فقد كان البرّ الروسي من أقصى الشرق في كامتشاتكي الى شرق أوروبا مركز الثقل الجيوسياسي للعالم القديم وهدفاً للطامعين في الزمن الحديث، وصيغت الكثير من النظريات الإستراتيجية حوله. وبعد عهد القياصرة وما قاموا به من توسع جاء لينين ليعطي روسيا نكهة جديدة للحكم والدولة ويجعلها قطباً عالمياً غيّر الكثير من المعادلات في عالم تتناتشه الذئاب والأطماع، واستطاع توحيد خمس عشرة جمهورية تحت راية الشيوعية الحمراء. لكن ما لبثت الممارسات الخاطئة للقيادة السوفياتية مع العديد من الأسباب الأخرى، وهي ليست موضوعنا الآن، ان أدت الى إنهيار البناء العظيم.
ورثت روسيا الإتحاد السوفياتي بعد تفككه في 26 كانون الأول 1991 ومرّت بمرحلة ضعف ووهن الى ان تسلّمَ بوتين السلطة عام 2000 حيث قام بجهد كبير في استعادة روسيا لدورها المحوري في النظام العالمي الجديد، وبدأ بإعادة ترتيب بيته الداخلي من خلال السيطرة على مفاصل الدولة وتحييد المنافسين والمعارضين، واستطاع ان يعيد بناء مؤسسات الدولة وتأسيس نظام رئاسي بقبضة حديدية أمنية. وأعتقِد انه وقع هنا في خطأ التفرد بالقرار وارتكب خطأ أسلافه في كبت الحريات وعدم السماح بتبادل السلطة بالأساليب الديموقراطية والتضييق على المعارضين.
في هذه الأثناء لم تتركه الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو يأخذ أنفاسه، فقامت بمحاولات حثيثة لتطويق روسيا من خلال زرع أنظمة حكم مناهضة لها في الجمهوريات السوفياتية السابقة وتتبع لسياسات الغرب، هذا ما أزعج بوتين وأجبره على استعمال القوة في منع تلك الشعوب من الإتيان بأنظمة إعتبرها معادية له. فدخلت القوات الروسية جورجيا وأبخازيا واحتلت جزيرة القرم وساعدت الرئيس البيلاروسي الحالي لوكتشينكو في الحفاظ على السلطة.
وكانت نقطة التحول الرئيسية والخطر الأكبر على الأمن القومي الروسي هو فوز المعارضة البرتقالية في أوكرانيا وتبوء زيلينسكي سدة الحكم، وجنوحه الواضح للغرب وطلبه الانضمام الى الإتحاد الأوروبي والى حلف الناتو، وهذا ما أقلق القيادة الروسية وجعلها تفكّر بالقضاء على هذه الظاهرة بشتى الوسائل. بعد انسداد أبواب الحلول بقي خيار استعمال القوّة هو الحل الوحيد لديها، والذي دفعت الولايات المتحدة بوتين اليه بطريقة غير مباشرة، وهنا وقع الروس في خطأ سوء التقدير والإنجرار الى المستنقع الأوكراني.
اعتقدت القيادة العسكرية الروسية ان المعركة لن تأخذ أكثر من أيام قليلة فتسقط العاصمة كييف ويسقط الممثل الكوميدي فولديمير زيلينسكي أو يهرب، وتُنصِّب موسكو مكانه نظاماً موالٍ لها. "لم يطابق حساب الحقل على حساب البيدر"، حيث صمد الجيش الأوكراني وأظهر عن بسالة في القتال مدعوماً من الشعب والدول الغربية، وكبّد القوات الروسية المهاجمة خسائر بشرية ومادية فادحة. هنا وقعت القيادة الروسية السياسية في أزمة كبيرة نتيجة عدة أسباب: منها المعلومات المخابراتية الناقصة او المغلوطة ان كان عن الجيش الاوكراني او القيادة الأوكرانية أو حجم الدعم الغربي لها، إضافة الى ضعف اللوجستية للقوات الروسية المهاجمة وعدم قدرتها على تغطية تلك المسافات والمساحات الكبيرة.
ظهر الجيش الروسي بمظهر الضعيف بعكس ما كان يُنظر له، والذي يفتقر الى الروح القتالية والمعنوية، ويمكن ان يكون بسبب عدم إقتناع أفراده بدوافع هذه الحرب، فالشعبين الروسي والاوكراني يتقاسمان تاريخ مشترك طويل من التعاون والنضال والإندماج والتزاوج. دفع تعثر الجيش الروسي في المعارك وتحديداً في معركة باخموت، والتي صمدت ما يقارب التسعة أشهر، للذهاب الى خَيار الضرورة المُرّة ألا وهو الإستعانة بميليشيا فاغنر العسكرية، ما أظهر الجيش الروسي في صورة العاجز، وانعكس ذلك على معنويات القيادة العسكرية والسياسية، وبعد بروز تفوق مقاتلي فاغنر وخاصة في حرب المدن وقبل الانتها من السيطرة على باخموت أوقفت القيادة الروسية تزويد فاغنر بالذخيرة، فاعتبر قائدها بريغوجين ان ذلك متعمد ويشكل محاولة لتحجيمه أو التخلص منه، واتهم وزير الدفاع سيرغيي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف بتعمد ذلك، هذا من جهة، من جهة أخرى لم يكن جنرالات الجيش الروسي موافقين على قرار الإستعانة بمجموعة فاغنر وتحديداً وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة كون ذلك يمسّ بكرامة وهيبة القوات العسكرية الروسية ومعنوياتها.
كثرت التحليلات والتوقعات حول إرتداد يفغيني بريغوجين من الجبهة الاوكرانية نحو الشرق لاحتلال موسكو ومحاكمة الفاسدين والقيادة العسكرية وعلى رأسها وزير الدفاع، وقد كشف عن معلومات خطيرة تمس هيبة روسيا وجيشها وحتى رئيسها الذي كان طبّاخه المفضّل. والمستقبل كفيل بإيضاح ما جرى وتوضيح الأسباب الحقيقية عن هذا التمرد أو الإنقلاب، وهل كان متورّطاً في ذلك أحد من القيادات العسكرية والسياسية الروسية.
لكن الملاحظة الأهم في ذلك هي ان الذي حصل أظهر هشاشة الدولة الروسية، كما وسيكون له انعكاسات سلبية مستقبلية على روسيا كدولة إتحادية وعلى السلطة السياسية والعسكرية بالأخص، وكذلك على الرئيس بوتين شخصيّاً الذي تهشّمت صورته كرئيسٍ وكقائدٍ صلبٍ يأخذ روسيا الى القيادة العالمية. والخوف من ان تؤسِّس هذه الحركة الإنقلابية لقيام حركات معارضة وانشقاقات داخل المكونات الروسية المختلفة وخاصة معارضي بوتين والحرب على أوكرانيا، فدخول روسيا_ والتي تضم أكثر من مئة إثنية_ في حرب أهلية واقتتال داخلي يُمثِّل خطراً يهدد القارة الأوروبية برمتها وكذلك السلام والأمن العالميين.
ان ظاهرة الجيوش البديلة (الميليشيات المسلحة) أثبتت وبالدليل الحسّي والقاطع عدم صحتها، فمهما كانت استفادة النظام منها في ظروف معينة، إلا أنه في نهاية المطاف سوف يأتي يوم وتصبح هذه الميليشيات عبئاً على الدولة وخطراً يهدد كيانها ووحدتها وأسس بقائها. ولن تقوم دولة موحّدة وقوية وذات سيادة كاملة بوجود ميليشيات عسكرية منظّمة تنافس الدولة ولها مشاريعها الخاصة والمرتبطة في معظم الأحيان بالخارج.
وفي الختام نتساءل، هل ما يحصل في روسيا، وقد كان متوقعاً ظهور بعض الحركات المعارضة للحرب، هو صراع على السلطة؟ أم ان قد إستشعر بوتين شيئاً ما يدور حوله ويحاك ضدّه؟ أم ان بريغوجين لاحظ إنتهاء دوره وتحسّسَ دنوّ السكين من عنقه؟