Advertise here

شعب من دون كتاب تاريخ موحد ... لن يتوحد

17 حزيران 2019 13:58:00

التاريخ يكتبه المنتصرون. هذه المقولة التي تعلّمناها منذ الصغر توقفت في لبنان عام 1975، وتوقفت معها كتابة التاريخ الحديث مع اندلاع الحرب اللبنانية، حيث لم تشهد الساحة اللبنانية منذ انطلاق شرارة الحرب أي انتصار طويل الأمد لأي فريق، بل كانت المواقع تتغير وفق تغيّر الأوضاع الإقليمية والدولية، وبالتالي لم ينتصر فريق ليدوّن التاريخ وفق رؤيته الخاصة.

 بعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق الطائف، جرت محاولات عديدة لدى المركز التربوي للبحوث والإنماء من أجل كتابة تاريخ لبنان الحديث. لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، واصطدمت بالتناقض العميق بين الأطراف السياسية التي أعطت لنفسها حق الحكم التوافقي للبلاد، فكان لكل جهة قراءتها الخاصة للأحداث التاريخية، فكل واحدٍ ينظر من منظاره، ومن موقعه على الأحداث.

 لا يمكن إلغاء الأحداث التي مرت على لبنان من ذاكرة التاريخ، ولا بد من تدوينها في صفحاته كما هي دون زيادة أو نقصان، ودون إعطاء أي رأي من قِبل المؤرخين بما جرى، بل المطلوب فقط ذكر تسلسل الأحداث، وهذا لا يجب أن يصطدم بمعارضة أي فريق سياسي. فعلى سبيل المثال اندلعت شرارة الحرب مع مرور بوسطة عين الرمانة. وبغضّ النظر عن التحليل السياسي لهذه الحادثة، إلا أنها حدثت في المكان والزمان الثابتين. وعلى سبيل المثال أيضا نتج عن الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978، استلام منطقة الشريط الحدودي من قِبل جيش لبنان الحر بقيادة سعد حداد. وهذا ثابتٌ لا لبس فيه، والبعض من اللبنانيّين يجدونه منقذاً لهم من سيطرة البندقية الفلسطينية على الشريط الحدودي، والبعض الآخر يرونه عميلاً إسرائيلياً. كما أنه، وفي عام 1982، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي، انتُخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية.

وهذا أصبح ثابتاً لا لبس فيه، ويجب أن يدوّن في صفحات التاريخ، بغضّ النظر إذا كان المسيحيّون يرونه بطلاً قومياً، والمسلمون يرونه عميلاً إسرائيلياً؛ وصولاً إلى حرب الجبل، فقد كتب العديد من الكتاب كُتباً عن تلك المرحلة. فما العيب إذا تمّ ذكر الأحداث الواردة في معظم الكتب الخاصة بدقة وحرفية، دون الدخول في التحليل وإبداء الرأي.

يجب أن يُترك للقارىء وللطالب حرية تكوين تحليله الخاص، ورؤيته للأسباب الحقيقية لكل حدثٍ بعد قراءته لمجرياتها. كفانا وضع الرأس في الرمل كما تفعل النعامة. إن كافة الأحداث بتفاصيلها تُنقل كأحاديث، أو ككتبٍ متنوعة بين الناس، فلماذا تغييب كتاب التاريخ الموحّد؟ إن هذه الصيغة التوافقية التي يحكمون باسمها لا تدوم إلا إذا اعترف كل فريقٍ بوجود الآخر، وهذا الاعتراف ينطلق من الاحترام المتبادل لرؤية كل فئة لمبادئها ولشعاراتها، فكيف يسمحون لأنفسهم بخطابات تجييشية لشدّ العصب عند كل استحقاقٍ، ويجلسون بعدها مع بعض لتقاسم الحصص في توزيعات المكاسب من الدولة، وكأن شيئا لم يحدث؟ فإذا كنتم تخوّنون بعضكم بعضاً، فلماذا تجلسون سوياً تحت قبة البرلمان، وحول طاولة مجلس الوزراء؟

 لقد آن الآوان لوقف التكاذب والخداع. فإما وطن يحتضن الجميع، ولا يفرض فيه أي فريقٍ رأيه على الآخر، أو قسّموا البلاد كانتوناتٍ لمناطق مذهبية وطائفية، ولكل كانتون فلسفته وعقيدته في الحياة.

وحدة البلاد تتطلب بالدرجة الأولى كتابة تاريخ موحد، وذكرَ كافة الأحداث بدقةٍ علمية وتجردٍ فكري دون القفز فوق أي حدثٍ كبر أو صغر. إنها الطريق الوحيد التي تتلخص فيها احترام الشهداء والتضحيات لكل فريق، كلٌ وفق قناعاته واعتقاداته. ومن هنا ننطلق في وضع أسسٍ لبلد متطورٍ متقدم، هذا إذا صدقت النيّات لمن يحكمون باسم التوافق، ويعملون خفيةً على تحسين وضعهم على حساب الدولة ككيان.

*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية