Advertise here

العنصرية المتعنّتة

16 حزيران 2019 17:58:00 - آخر تحديث: 05 أيلول 2020 22:22:17

كتب أستاذ جامعي لبناني على قدر كبير من العلم والإنسانية، تعليقاً غاضباً في وسائل التواصل الاجتماعية على العنصرية الرسمية التي قدّر، كما كثيرين غيره، وجودها بنسبة عالية في مواقف بعض المسؤولين اللبنانيين خلال الأشهر القليلة الماضية. عنصرية لا تُخفي وجهها، وتنعكس تخبّطاً في التعاملين، الرسمي والشعبي، مع مسألة اللجوء السوري. عنصرية ممأسسة صار بعض الإعلام اللبناني يفخر بها من خلال متابعات مصوّرة ومتفشية لملاحقات أمنية استعراضية، يقوم بها "رامبويات" الأمن تجاه عامل بناءٍ هنا، أو بياع بسطةٍ هناك، تجاه ماسح أحذية هنا وبائع كعك هناك، ويخال لمن يتابعها أنهم يجهدون في محاربة مجموعات إرهابية أو عصابات تهريب المخدرات. تصرفات يستعملها متطرّفون في إذكاء مشاعر البغض والكراهية بين الشعبين. وقد أشار إلى التشابه الفظ القائم بين الحملة التي قام بها النازيون الألمان سنة 1933 حين كانوا يدعون الألمان إلى عدم الشراء من محالّ اليهود، وما يتم اليوم في لبنان "الباسيلي" (نسبة إلى وزير الخارجية جبران باسيل)، وفي سنة 2019، حيث تتم الدعوة إلى مقاطعة محالّ السوريين، وتشجيع اللبنانيين على الشراء فقط من محالّ أبناء جلدتهم، وبالتالي، يُضيف ساخراً وبمرارة: "ماذا نفعل مع السوريين الذين يلوثون نقاء الجينات اللبنانية، أي الفينيقية؟". 
حملة "السعار" التي تقودها قوى سياسية شعبوية يمينية متطرّفة على الوجود السوري الشعبي في لبنان، الذي حتماً يُشكّل معضلةً نسبيةً اقتصادياً واجتماعياً بعيداً عن أيّ مبالغات ومزاودات شعبوية، بدأت تجد لها مسارب سياسية صريحة، وحوامل إعلامية لا تخجل من أداء دور "إذاعات الموت" في رواندا في أثناء مذابح تسعينيات القرن المنصرم، التي صارت تُدرّس في كليات الإعلام الأوروبية، والتي تُحرّض عن سابق إصرار وتصميم، أو عن نفحة مرتفعة من نسبة الغباء، على الأجنبي عموماً والسوري خصوصاً، ليصل الأمر في بعض الحالات إلى القيام بعلميات "شعبية" للقضاء على هذه "الظواهر" التي تَعيبُ "وحدة" النسيج المجتمعي المحلي الذي تشتهر به البلاد، منذ حربها الأهلية، وتقضي على خصوصياته. 
صارت الملاحظات العنصرية مصدراً لا ينضب للكوميديا السوداء، فمن قائل بضرورة منع تجوّل السوريين في المساء لعدم تمكّنهم (الجيني؟) من رؤية نساءٍ غير محجبات، وبالتالي عدم قدرتهم على السيطرة على هرمونات التحرّش التي أتوا بها في حقائبهم، إلى القول إنهم حملوا معهم ميكروباتٍ سببت تزايد أعداد مرضى السرطان في البلد، وصولاً إلى استعراض الارتفاع المؤسف في حوادث السير، وربطه بوجود السوريين "الآتين من الريف"، حيث لا سيارات يتعاملون معها، ما يؤدي إلى عبورهم العشوائي في شوارع سويسرا الشرق، وصولاً إلى مساهمتهم في مأساة النفايات، ليس حجماً، مما يمكن قبوله رياضياً، ولكن في طريقة التخلص منها، حيث هم آتون من بقاعٍ لا تعرف النظافة، وترمي نفاياتها كيفما اتفق من نوافذ بيوتها. لا تتوقف السلسلة المضحكة المبكية عن التطوّر والتطاول، ويحسب المتابع أن هناك مؤلفاً مسرحياً محدود الموهبة يقف وراء اختراعها كلها. حتى إن زائر البلاد لأيام يخشى، إن لاحظ أن الحرارة مرتفعة وتصاحبها رطوبة شديدة، أن يتأفف من هذا الحال، كي لا يسمع الإجابة والتوضيح السريعين بأنها حرارة أنفاس السوريين ورطوبة تحت آباطهم المتعرّقة. 
في خضم الجدل القائم على نظرياتٍ عنصرية، يساهم فيها سياسيون وإعلاميون، تحمل كثيراً من الفوقية والإقصاء، لدينا جدلٌ من نوع آخر، يقترفه بإساءة بعض من يدّعي ذوداً عن قضايا الضحايا، فمن النادر للغاية أن نسمع أو نقرأ موقفاً عنصرياً مقابلاً لمن يعاني الأمرّين في المشهد اللبناني من السوريين العالقين بيد مطرقة الإجراءات وسندان الانتهاكات، إلا أننا كثيراً ما نقرأ تعليقاتٍ لا تقل عنصرية وفوقية عن "شقيقتها" اللبنانية ممن يسعى إلى الدفاع عن حقوق المنتهكة حقوقهم من السوريين خصوصاً، فتحفل وسائل التواصل بعنصرياتٍ متبادلة لا تثري الحوار إلا سلباً، ولا تفيد الضحايا الحقيقيين، بل على العكس، هي ترفد "أسلحة" العنصريين من اللبنانيين بذخيرةٍ تستند إلى "عنصرية" سورية دفاعية مقابلة. ويبقى اللبنانيون، والسوريون الواعون إلى حقيقة المخاطر التي تحملها نفحات العنصرية المتبادلة، الأقدر على مواجهتها وإدانتها والتصدي لها بكل وسائل التعبير المشروعة والمتاحة.
وهم يستندون في ذلك خصوصاً، إلى العمل المميز الذي يقوم به باحثون لبنانيون جادّون من اقتصاديين وديموغرافيين، للرد على المبالغات والأكاذيب المتعلقة بملف اللجوء السوري، بالاعتماد على دلائل علمية مدققة ومحققة، كما يفعل معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية مثلاً، واضعين النقاط على الحروف من خلال عمل وحدة بحثية متخصّصة في مسألة اللجوء، وانعكاساته الحقيقة على الوضع الاقتصادي اللبناني. كما يسعى باحثون سوريون يعملون إلى جانب "أشقائهم" اللبنانيين، إلى إجراء دراسات ميدانية موضوعية، وبعيدة عن الحساسيات المنفّرة.
في ردّه على الأستاذ الجامعي الذي قارن مع حقبة النازية، علّق زميلٌ له مستغرباً هذه المقارنة، ولم يكتف بذلك، فأطنب متسائلاً عن وجه المقارنة بين اليهود المثقفين والمتعلمين والمهنيين الرفيعين من جهة، والسوريين وما يحملونه من جهل وفقر ومخاطر أمنية (...). إنها العنصرية المتعنّتة.