"الجينيريك" الوطني أغلى من الدواء الأصلي المستورَد. والأدوية تُباع بأضعاف أسعارها مقارنة مع دول الجوار. يحصل هذا في لبنان، وليس في الأمر مبالغة. البعض يصف الأمر بـ"نهبٍ" ممنهج، والبعض الآخر يسمّيه تلطيفاً... "شطارة". التربتزول مثلاً، وهو دواء محلّي مهدّئ للأعصاب، يُباع هنا بـ5 دولارات. أما في دبي، فلا يتخطّى سعره الدولارين والنصف شاملاً مصاريف الشحن وغيرها. الفلوانكسول، وهو "جينيريك" محلّي مضاد للاكتئاب، يُباع بـ180 ألف ليرة بينما يبلغ سعر الدواء الأصلي المستورَد 90 ألف ليرة فقط. والأمثلة الأخرى كثيرة.
الحكايا المرتبطة بصحة اللبناني... ألف حكاية وحكاية. لم يمرّ وقت طويل على إثارتنا مسألة تسريب أدوية السرطان - التي يُفترض أن تُوزَّع مجّاناً من قِبَل وزارة الصحة - وبيعها بأسعار خيالية في السوق السوداء. وتلزيمات المستوصفات التابعة للوزارة إرضاء لمحسوبيات سياسية معيّنة عيّنة أخرى. ندخل هذه المرّة خلف كواليس مسرح فوضى تسعير الدواء. من غياب السياسات الدوائية الفاعلة وتعطيل مفعول القوانين التي تُنظّم شؤون الدواء بمراسيم وقرارات وزارية، إلى انعدام أثر الخارطة الصحية الدوائية وسياسة تسعير واضحة ترتكز على تفعيل دور مختبر الرقابة. والسائل يسأل: من يحمي المواطن من جشع التجار؟ وهل تتحرّك وزارتَا الصحة والاقتصاد بِحزم قبل فوات الأوان؟
قوانين في مهبّ اللاتطبيق
نستكمل حديثاً سبق وبدأناه مع رئيس حملة «الصحة حق وكرامة»، النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية. فقد أشار لـ»نداء الوطن» إلى أنه جرى، عملاً بقانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 367 تاريخ 01/08/1994، تنظيم تسعير الدواء ضمن شروط معيّنة. «حين يقوم التاجر باستيراد دواء من دولة أجنبية ما، عليه أن يبرز شهادة سعر بلد المنشأ. فإذا استورد دواءً من فرنسا، مثلاً، يجب أن يؤمّن شهادة من الدولة الفرنسية تبيّن سعر الدواء هناك وهكذا دواليك». وبحسب القانون المذكور، يُضاف إلى هذا السعر نسبة مصاريف الشحن والتأمين والتخليص والرسوم الجمركية وسواها. كما يُضاف إلى الحاصل هامش ربح المستورِد (بحسب الجدول المعتمَد)، كما هامش ربح الصيدلي والذي لا يجب أن يتخطى 22.5% من السعر الأصلي للدواء.
ويضيف سكرية: «للأسف، لم يتمّ تطبيق هذا القانون، في حين أُزيحت جانباً المادة المتعلّقة بتأمين شهادة بلد المنشأ منذ مطلع التسعينات، وذلك بهدف التحكّم بالتسعير بواقع أضعاف مضاعفة نسبة إلى الأسعار المتوجّبة». ويلفت في السياق عينه إلى أن وزارة الصحة كانت تعمد سابقاً إلى إعادة تقييم الأسعار كل ثلاثة أشهر، أو لدى تغيّر قيمة العملات الأجنبية، غير أن هذا التقييم راح يضمحلّ شيئاً فشيئاً إلى أن وصل إلى مرحلة «اللاتطبيق». والحال أن الأسعار كانت ترتفع تماشياً مع ارتفاع قيمة العملات الأجنبية لتبقى بالمقابل على ما هي عليه لدى تَراجُع الأخيرة، ما أدّى إلى فوضى التسعير وخضوعه لسلطة الوزارة ونفوذ التجار أوّلاً وأخيراً.
والمختبر المركزي... معطّل
ونصغي إلى كيفية تطوّر الأمور في ما بعد. «في العام 2005، صدر قرار وزاري قضى بتعديل القرار رقم 306/1 المتعلّق بتسعير الدواء فارضاً تسعير الدواء في لبنان بالمقارنة مع أسعار الأدوية في الدول العربية المجاورة. لكن، كما مع كافة القوانين السابقة، لم يُطبَّق ذلك أبداً»، بحسب سكرية. أما النتيجة: احتلال لبنان رأس قائمة أسعار الأدوية بين الدول العربية، كما يظهر في الرسم البياني المرفَق. فالتجار اعتادوا تاريخياً على تحقيق أرباح خيالية. وَهُم، على ما يبدو، غير مستعدّين للتراجع قيد أنملة. الأرقام تُبيّن تخطّي أرباح شركات تجارة الأدوية في لبنان خلال العام 2020 المليار دولار، في وقت وصل فائض الربح الشرعي للتجار منذ العام 1997 لغاية العام 2020 إلى ما لا يقلّ عن 11 مليار دولار. علماً أن فاتورة الدواء صعدت من 362 مليون دولار عام 1997 إلى مليارَي دولار عام 2020. وللجميع أن يتخيّلوا الأرباح الإضافية التي تحقّقت بعد استفحال الأزمة في السنتين الأخيرتين...
«في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، لجأ اللبناني إلى من يسكّن آلامه بأدوية مجهولة المصدر، لكن بأسعار أكثر ملاءمة. الأدوية السورية والإيرانية وغيرها غَزَت الأسواق. وعلى وقع تَواصُل سياسة تغييب دور المختبر المركزي للرقابة، فُتحت الأبواب على مصاريعها أمام التجارة والسمسرة ومافيات الدواء التي تحكّمت بفرض الأسعار التي تناسبها»، والكلام دوماً لسكرية. لكن ما هو دور المختبر المركزي للرقابة؟ بحسب قانون مزاولة مهنة الصيدلة المعدّل بتاريخ 1/8/1994، هو المختبر الوحيد الذي يُفترض أن تجري فيه الفحوصات اللازمة على أي دواء يُسجَّل في لبنان مستورَداً كان أو محليّ الصنع، وذلك لتبيان تركيبته الكيميائية ونسبة فعاليته وثباته ونقاوته وأمانه وتكافئه الحيوي. فهو، بعبارات أخرى، صمّام الأمان والضمانة الوحيدة لصحة المواطن. ومع ذلك، ثمة إصرار على تعطيله؟ «عُطّل المختبر عن سابق تصوّر وتصميم بقرار من مافيا الدواء. فلو كان فاعلاً حقاً، لسُحب نصف أدوية السوق من التداول لانتفاء الحاجة إليها و/أو فعاليتها العلاجية. فما حاجتنا مثلاً إلى 120 نوعاً مختلفاً من الأدوية المسكّنة وإلى 86 نوعاً من أدوية حماية المعدة... أليست هذه تجارة بأرواح وجيوب الناس؟»، يتساءل سكرية.
إبتزاز... تفلّت... وجشع
المحامي علي عباس، المتابع لملف الدواء، رأى في اتصال مع «نداء الوطن» أن الحكاية بدأت مع بدء الأزمة، حيث تغيّرت الأسعار بالدولار الأميركي وكَثُر الاحتكار داخل الصيدليات كما في مستودعات الأدوية. وهو ما أدّى إلى ازدهار عمليات البيع في السوق السوداء بأسعار تفوق أسعارها في كافة دول العالم. «عاودت أصناف كثيرة من الأدوية الظهور بعد أن كانت غير متوافرة في الصيدليات، مع مدة صلاحية لا تتخطى الشهر أو الشهرين. ويدلّ ذلك على أن الأصناف تلك لم تُستورد حديثاً، إنما كانت مخزّنة، لا بل محتكرة، منذ فترة طويلة لتُباع لاحقاً بسعرٍ مرتفع». وإن لم يكن ذلك نتيجة مباشرة لتفلّت الرقابة، إن من قِبَل وزارة الصحة أو وزارة الاقتصاد، ماذا عساه يكون؟ الأكيد، بانتظار الإجابة، هو تفاقُم منسوب الجشع على حساب صحة المواطن.
إلى موضوع آخر تطرّق إليه عباس. والكلام هو عن غزو الأدوية المزوّرة (والمعدومة الفعالية) للأسواق نتيجة التهريب المتفلّت والتلاعب بتواريخ انتهاء الصلاحية. خير دليل على ذلك يتمثّل بالملاحقات الأخيرة التي شهدتها بعض الصيدليات التابعة لجهات حزبية، لكن طبعاً دون أي جدوى تُذكَر. «دواء «الجينيريك» الذي يُفترض أن يقلّ سعره عن أسعار الأدوية المماثلة المستورَدة، يكون في أحيان كثيرة غير مناسب لعلاج حالات معيّنة، ما يحتّم الحاجة إلى استيراد بعض الأنواع من الأدوية التي نراها تُباع بأسعار خيالية، إن لم تكن مزوّرة أصلاً، في ظل غياب مزدوج: دعم الدولة، من جهة، ورقابة المختبر المركزي، من جهة أخرى». هذا ناهيك ببعض الصيدليات التي يشبه عملها التجارة أكثر منه العمل الإنساني، من خلال ابتزاز المريض، بحجة أن الطلب يفوق العرض، تحقيقاً لأرباح طائلة تتعدّى بأشواط الحدّ المسموح به للصيدليات، ما يفسّر تفلّت الأسعار مقارنة مع الدول المجاورة.
للتذكير، جاء في أحد التقارير الصادرة عن التفتيش المركزي ما يلي: «القرار رقم 306/1 والمتعلّق بطلب وإعادة تسعير الدواء ما زال حبراً على ورق لأن أسعار الأدوية في بلد المنشأ أرخص بكثير من أسعارها في لبنان. ونحن لم نعرف حتى اليوم ما هي الآلية المتّبعة من قِبَل وزارة الصحة لتطبيقها. إن الفساد المستشري في الإدارات العامة ولا سيما في وزارة الصحة يعود إلى تهميش هيئات الرقابة نتيجة التدخّل السياسي في تعيين هذه الهيئات». نستفسر أكثر في هذا الإطار من المفتّشة العامة الصحية والاجتماعية والزراعية في التفتيش المركزي، السيدة نضال الراعي. وتقول في دردشة مع «نداء الوطن» إن الرقابة على أسعار الأدوية هي من صلاحية وزارة الصحة حصراً، أما التفتيش المركزي فيُمارس رقابته على مراقبِي الوزارة. «هناك مفتّشون صيادلة في وزارة الصحة مهمّتهم القيام بالرقابة على أسعار الأدوية ونوعيّتها وتراخيصها. أما نحن فنتابع إن كانوا يقومون بدورهم ليس أكثر».
النقيب يناشِد
نقيب الصيادلة، الدكتور جو سلوم، أفادنا بدوره بأن لا علاقة لنقابة الصيادلة بمسألة تسعير الدواء ولا في تسجيله، إذ هي تستوفي الرسوم فقط. وعن الحلّ، اعتبر أن لا خيار سوى البدء بتطبيق مراسيم قانون إنشاء الوكالة الوطنية للدواء الذي أقرّه مجلس النواب في كانون الأول 2021، والذي من أهدافه المساهمة في درس السوق بشكل دائم وتحديد حاجته من الأدوية كما أسعار الأخيرة. سلوم، كما يحرص في كل مناسبة، شدّد على ضرورة تفعيل دور المختبر المركزي كونه الجهة الوحيدة الضامنة لنوعية الدواء المستورَد والمصنَّع. فعدم تحقيق الرقابة على نوعية الدواء وصلاحيّته، وعدم قيام وزارة الصحة بإصدار لوائح التسعير، والإيقاف المتعمَّد للمختبر المركزي كما استيراد أدوية بموجب فواتير مزوّرة، جميعها عوامل ستزيد من رداءة واقع القطاع الصحي. سلوم حمّل ختاماً اللجنة الفنية داخل وزارة الصحة مسؤولية تفلّت أسعار الأدوية في السوق. نحاول الاتصال بالوزير فراس الأبيض. لكنه غائب عن السمع. أو لم يشأ الردّ، لا فَرق.