كأننا على موعد مع القدر لا يفارقنا، إذ ودع الحزب في السنوات الاخيرة كوكبة من رموز النضال الوطني العربي، واليوم ينضم هيثم الجردي ابو الشهيد الى هذه القافلة من الذين عاهدوا ولم يبدلوا تبديلا. ابو الشهيد الذي ترك بصماته في المراحل التي عزّت فيها الرجال، وتطلبت مواقف بطولية للحفاظ على الكرامة والوجود.
في رحيل هيثم تختلط الجوارح التي تختزن الآم الفراق التي لا تهدأ بسهولة، بذكريات أهمّ المراحل التي اعطاها من تعبه وارادته واخلاصه ووفائه دون حساب، ليكتسب ثقة قائد المسيرة الرئيس وليد جنبلاط، الذي عهد اليه بالعديد من المسؤوليات، وكان اهمها الدفاع عن الشويفات التي تمثّل بوابة الجبل، وتأمين التواصل مع الضاحية الجنوبية وبيروت الوطنية، لما لهذا التواصل من اهمية في تقرير مصير المواجهة في تلك المرحلة. تختزن الذكريات هذه، سيرة رجال اشداء، رجال، استحقوا ان تنتقل اليهم المهمة التاريخية في حماية الثغور، واسقاط كل محاولات فصل لبنان عن محيطه العربي وحماية دوره الطليعي في القضية الفلسطينية. سيرة رجال كان ابو الشهيد في مقدمهم، إذ سجل بصماته ليس فقط في الدفاع عن الشويفات الغالية على قلبه وقلوبنا جميعاً وتأمين بوابة الجبل في اصعب المراحل، بل في الممر الذي أنشأه بطلب من الرئيس وليد جنبلاط بهدف نقل الاسلحة والذخائر الى الضاحية الجنوبية وبيروت الوطنية، لتحقيق انجاز السادس من شباط الذي سبق تحرير الشحار في 14 شباط 1984، التحرير الذي قاد قلب ميزان القوى وفتح الطريق نحو الغاء اتفاق 17 ايار.
في يوم تحرير الشحار، كانت مهمة أبو الشهيد الامساك بمثلث خلدة ومنع تعزيز قوات الجيش، ثم ما لبث ان لاقى القوات التي حررت الشحار ووصلت الى الساحل، دون اكتراث لتهديدات المارينز التي كانت تهدف الى منع الحزب السيطرة على خط الساحل وتغيير ميزان القوى القائم . ومن ذكريات تلك المرحلة، والتي لا يطالها النسيان، يوم نزلت قوات المارينز في مطار بيروت في ايلول 1982، وتمركزت على تخوم الشويفات التي تحولت تلالها لاحقاً الى جبهة مشتعلة، بقي هيثم على عزيمته القوية وتعامل مع هذه المخاطر التي نشأت ببأس شديد ومسؤولية وحكمة، فقام بتحصين الشويفات والدفاع عنها، ولم يأبه لمدافع البوارج الاميركية التي تدخلت غير مرة لمساندة الجيش في سوق الغرب وقصف العديد من التلال والمرتفعات المحيطة بمدينة الشويفات، لتغيير المعادلة ولم ينجحوا.
هيثم، القليل الكلام في الاجتماعات والكثير العمل في الميدان، الممسك باستمرار بزمام الامور، والاستعداد الدائم على قاعدة "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة"… كان ينتظر الشهادة كي يترجّل عن صهوة جواده. للاسف نال منه المرض، لكنه بقي على هدوئه المعهود الذي رافقه حتى النَفَس الاخير. رحل هيثم فبكاه الجميع، وقام بوداعه وليد جنبلاط قائد المسيرة، والرفيق تيمور امل المستقبل،كما ودّعه الحزب والجبل بمكوّناته كافة، فكان يوم الوفاء، لمن كان احد مداميك المواجهة، يوم الوفاء، لتاريخ الجبل المقاوم، يوم الوفاء لجبل كمال جنبلاط وزمن المجد. الزمن الذي قاده وليد جنبلاط فسطّر فيه البطولات التي حافظت على عزتنا وكرامتنا ووجودنا، واعادت التأكيد ان الجبل ثابت بقيادته ورجاله ودوره في حماية الثغور، والحفاظ على لبنان وانتمائه العربي.
رحل أبو الشهيد، ولكنه يبقى سيرة الرجل والمناضل الوفي الذي لا يعرف التعب، الرجل الذي لا ييأس ولا يستسلم. سيرة الرجل الذي واجه مصيبة وفاة ابنته ليال بعد مرض عضال، بالرضى والتسليم، فبكى بصمت، صمت الرجال المؤمنين بالقضاء والقدر، وواجه لاحقاً مرضه بشجاعة وحكمة نادرتين. وفي آخر مرة التقيته في مستشفى عين وزين، كان يجاهد كي لا ينكسر، ولاحظت في نظراته اليقين ان ساعة القدر تقترب، فكم تختزن هده اللحظات من آلام يصعب ان تمحوها الايام.
أبو الشهيد، نتضرع الى الله تعالى ان ترقد روحك بسلام، وأن تنام قرير العين الى جانب فلذة كبدك المرحومة ليال، لعل هذا الجرح الذي رافقك في السنوات الاخيرة يتداوى ويلتئم في اللقاء الابدي . ستبقى يا هيثم علماً من اعلام مسيرة النضال الوطني والعربي، المسيرة التي تعمدت فيها، وأكدت أنك من خيرة الذين حملوا الامانة، واستمروا بالوفاء والاخلاص للحزب. لك الرحمة ولعائلتك ورفاقك الصبر والسلوان.