Advertise here

إستشراف المستقبل العربي بين الواقع والتحديات

30 أيار 2023 16:33:00 - آخر تحديث: 02 تموز 2023 21:02:56

منذ تأسيس الجامعة العربية والفشل يلاحق مؤتمراتها وقراراتها، فهل ستغيّر المملكة العربية السعودية بمشروعها النهضوي الجديد هذا الواقع؟ وما هي التحديات التي ستواجهها؟.


من الواضح ومنذ تعيين الأمير محمد بن سلمان وليّاً للعهد بدأت المملكة العربية السعودية مساراً تغييريّاً كبيراً داخلياً وخارجياً في جميع المجالات السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأصبحت حجر الرحى في منطقة الشرق الأوسط، وكان التغيير محفوفاً بالتحديات والمخاطر والصعوبات، استطاع الأمير الشاب تجاوزها بفكرٍ متوقّد وخُطىً ثابتة وواثقة وإرادة صلبة. ولسنا في وارد تقييم المرحلة السابقة، إنما سنحاول التركيز على مرحلة ما بعد القِمّة العربية ال32 التي عقدت في جدة، وإلقاء نظرة على مستقبل المنطقة العربية، ومدى تجاوب الدول والشعوب العربية مع تلك الخطوة الإستراتيجية والتموضع والدور الذي يمكن ان تلعبه دول المنطقة، كفاعلٍ وليس كتابع أو مفعولٍ به، وفي التحول والإنتقال من ساحة للصراعات وإراقة الدماء الى دولٍ مستقرة، تسعى الى بناء وتطوير مؤسساتها ومجتمعاتها على أسس متينة من الحرية والمساواة والديموقراطية والعدل والتنمية المستدامة، ولها دورها ومكانتها العالمية.  


تكثر التحليلات التي تتناول السياسة الجديدة للمملكة وخاصة سياسة "تصفير المشاكل" في المنطقة مع الدول المجاورة وتحديداً مع إيران، وانتهاجها سياسة براغماتية في حل الصراعات وإيقاف الحروب الأهلية داخل الدول العربية، في خطوة مميزة ما زال مبكراً الحكم عليها بالنجاح أم بالفشل، ويرتبط نجاحها أو فشلها بعوامل عديدة منها ما هو داخلي ومنها ما هو إقليمي، دون أن ننسى العامل الدولي واستقطابات ومصالح الدول الكبرى. إنما الشيء الإيجابي الواضح وجود النيّة والإرادة وتوفر الإمكانيات لهذه الرؤية، لكن هذا وحده لا يكفي فمن المفروض وجود الوعي الكافي والمصداقية لدى الأنظمة العربية وشعوبها، وكذلك وضع الإستراتيجيات والخطط اللازمة مع الوسائل الموضوعية لتحقيق هذه الرؤية.   


مع تقديري لكثير من الآراء والأفكار الموضوعية التي تناولت تحليل الخطوة السعودية، ودون الوقوع في التكرار والإطالة، حاولت إختصار أهداف الخطوة وطرح بعض التساؤلات حول إمكانية تحقيقها: 


إستشرفت قيادة المملكة العربية السعودية مستقبل النظام العالمي الذي ما زال في طور التشكل، وأخذت القرار في التموضع في منطقة الحياد الإيجابي، وقد قرأت جيداً التحولات والمتغيرات الدولية في عالم يتبدّل وكأنه يتجه الى نظام تعددية الأقطاب، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي، ومن إمكانياتها الاقتصادية الضخمة، التي يمكن ان توظفها في التنمية والسلام العالميين، ومستفيدة أيضاً من موقعها الجغرافي على خط الحزام والطريق للمارد الإقتصادي الصيني، وكعقدة إتصال إلزامية بين الشرق والغرب. إستناداً الى هذه الرؤية بدأت بتطوير مؤسساتها وتنويع إقتصادها، وأرفقتها بإصلاحات قانونية وضريبية حديثة مواكبةً للتقدم، وتُعدّ المملكة اليوم من أكثر دول العالم نمواً وازدهاراً وجلباً للإستثمارات. ترتبط أزمات المنطقة بشكل وثيق بإيران وبالميليشيات المسلّحة في كل من العراق، اليمن، سوريا ولبنان، إضافة الى حماس في فلسطين، التي أنشأتها أو تدعمها، وهي ما تشكّل العقبة الأساسية في إعادة بناء الدولة وبسط سيادتها الكاملة على أراضيها، ولا ندري ان كان الإتفاق السعودي الإيراني قد أتى على ذكر تفكيك تلك الميليشيات أو استيعابها في مؤسسات الدولة، كمدخل لقيام الدولة الفعلي والتام.


 إنتهاج أسلوب لم شمل الدول العربية وتفعيل دور جامعة الدول العربية هو خطوة متقدمة، وذلك من خلال إعادة سوريا الى جامعة الدول العربية وملء مقعدها الشاغر منذ عقدٍ ونيّف، وخطوة جريئة وفيها الكثير من المغامرة، نظراً لطبيعة النظام السوري المستبد والذي يصعب تغيير نهجه نظراً لارتهانه لروسيا وإيران، وكثرة التناقضات الداخلية والخارجية في الحرب الأهلية السورية، وحجم القتل الذي أرتكبه النظام ومن معه بحق الشعب السوري، وما خلفه ذلك من تفكك النسيج الإجتماعي الداخلي ومن حقد بين مكوناته يتطلب إصلاحه عقوداً من الزمن، وهناك مشكلة ملايين اللاجئين والنازحين الذين هُجروا عمداً وبشكل ممنهج، إضافة الى إعادة الإعمار التي تحتاج لمبالغ طائلة ويوجد صعوبة بتأمينها، زِد على ذلك عدم الرضى الغربي وخاصة الأميركي في التطبيع مع نظام بشار الأسد.


إتّباع سياسة براغماتية ومقاربة واقعية محايدة في ظل التحولات العالمية والاستقطابات الجديدة، من خلال لعب دور المحايد والوسيط، لإيجاد حلٍ سلمي للحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي حجز موقع مؤثر وفعال في النظام العالمي الجديد بالاستفادة من موقعها الجيوسياسي وثرواتها الضخمة التي لم يحصل أن جيرتها سابقاً بهذا الشكل ولذينك الأهداف.    


التركيز على التنمية، وخاصة التنمية البشرية، عبر الإهتمام بالتعليم والرعاية الصحية ومواكبة التطور والتقدم العلمي وخاصة التكنولوجي الحديث، ومنه الذكاء الإصطناعي وهذه نظرة تقدمية للمستقبل. فقد أثبتت تجارب دول المواجهة أن الأوطان لا تبنى بالإنفاق العسكري الضخم، ولا بتكديس الأسلحة التي لم تستعمل في مواجهة العدو الصهيوني إلا ما ندر، واستعمالها إقتصر على حماية الأنظمة والحكام المستبدين، وعلى قتل الشعوب وتهجيرها. 


في مقابل تلك النظرة أو المبادرة الجديدة للمملكة تبرز جملة من التحديات، تحتاج الى تضافر الجهود المشتركة والوعي والتضامن لتخطيها. ويمكن تقسيمها الى ثلاثة: التحدي الأول داخلي وعربي، ويتعلق بالصراعات الإثنية والدينية الدائرة بين فئات المجتمع الواحد في كل دولة، ومنها صراعات إثنية ودينية قديمة ودموية، بحيث يتطلب حلها الوقت والوعي والثقة والتسامح. أضف الى ذلك الأنظمة العربية وعلاقتها غير المستقرة بين بعضها البعض، وتضارب المصالح والأهداف لعددٍ منها. أما التحدي الثاني فهو إقليمي، إذ ليس هناك من توافق في النظرة لمستقبل المنطقة بين الدول العربية وعلى رأسها السعودية وبين عدد من الدول المجاورة وتحديداً إيران، صاحبة مشروع تصدير الثورة وتأسيسها ميليشيات مسلّحة في أربع دول عربية، وهي ما زالت كعادتها تراوغ وتعمل بعكس ما تُعلن، وخير دليل على ذلك المناورة العسكرية التي أجراها حزب الله، والمرتبط عقائدياً وسياسياً بإيران، في جنوب لبنان بتاريخ 21 أيار بعد انتهاء القمة العربية، ضارباً سلطة وسيادة الدولة، ومتحدياً إرادة غالبية الشعب اللبناني. وتأتي إسرائيل في مقدمة دول الإقليم الساعية دائماً ومنذ تأسيسها الى تفتيت المنطقة وضرب أي مشروع وحدوي عربي. في حين يتمثّل التحدي الثالث في ردّة فعل الدول الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة والتي تتعارض سياستها الحالية في الشرق الأوسط مع ما تقوم به الرياض، وتحديداً سياسة الإنفتاح والتعاون مع الصين، وكذلك سياستها تجاه النظام السوري.   


الشيء الأساسي والمهّم الذي قاله الأمير محمد بن سلمان، هو عدم السماح لبقاء المنطقة ساحة صراعات، وتأكيده على استقلالية وسيادة الدول العربية، ووقف التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة. يشير ذلك الى التأكيد على مفهوم الدولة الوطنية، والحفاظ على سيادتها ودورها ووظائفها. لكن يأخذنا التفكير الموضوعي الى طرح بعض التساؤلات ومنها: كيف ستتعاطى الدول العربية وتحديداً السعودية مع واقع تلك الميليشيات المسلحة؟ هل سيتم التفاوض معها باعتماد البراغماتية التي أعادت بها سوريا الى الجامعة العربية؟ وان فعلت ذلك، فهل ستمنحها حصة في السلطة والادارة مقابل تخليها عن مشاريعها؟ وهل سيكون ذلك حلاً ناجعاً ومستداماً، أم سيؤسس لظلم مكونات أخرى داخل الدولة ما يُبقي النار تحت الرماد، ويُبقي إحتمالات تجدد الصراعات والحروب الاهلية قائمة؟ 


لا شك ان المهمة صعبة وطريق الحل شاق، لكن دون ذلك ستبقى منطقة الشرق الاوسط ساحة حروب وموطناً للغربان ومصاصي الدماء. لقد علمتنا التجارب وقراءة التاريخ في هذه المنطقة الموبوءة بان الإتفاقيات ومؤتمرات الصلح تُمهر بدم الشعوب المقهورة، فهل سيتم إنصافها هذه المرّة؟ وهل ستقبل الأنظمة الإستبدادية بتغيير نهجها القمعي وتوافق على تقاسم السلطة مع المعارضة؟ 


وأخيراً، هل سترى وتنعم شعوب هذا المشرق الملعون بنور الحرية والسلام والرخاء؟ من يعش يرَ.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".